يوسف سيدهم
حشود المصريين الذين يتوافدون علي الساحل الشمالي لقضاء إجازات الصيف وتمتد مقاصدهم إلي منطقة العلمين -وهي المنطقة التي اكتسبت شهرتها التاريخية من معركة العلمين في نوفمبر 1942 والتي دارت بين القوات البريطانية بقيادة الفيلد مارشال مونتجومري والقوات الألمانية بقيادة الجنرال روميل في خضم أحداث الحرب العالمية الثانية, وماتزال تلك المنطقة تضم المقابر العسكرية لقتلي المعركة من الجانبين وتعد مزارا تاريخيا يتوافد عليه الزوار والسائحون في ذكري المعركة كل عام -أعود وأقول إن حشود المصريين الذين يعبرون هذه المنطقة قاصدين العديد من القري السياحية لقضاء إجازات الصيف يلفت أنظارهم ويعبرون عن إعجابهم بل وانبهارهم بالعمل الضخم الذي يجري علي قدم وساق في تنفيذ المشروع العمراني التنموي مدينة العلمين الجديدة.
وكما يشير عنوان هذا المقال تعد مدينة العلمين الجديدة بجميع المقاييس مصالحة عمرانية وتنموية مع الساحل الشمالي -وهذه قصة طالما كتبت عنها وأنا يتملكني الإحباط دون أن أتصور لها علاجا حتي تصدت الدولة لتخطيط مشروع مدينة العلمين الجديدة- ويرجع تاريخ هذه القصة إلي ثمانينيات القرن الماضي حين نزعت الدولة في مفارقة عجيبة تعكس غياب رؤية موحدة للتخطيط القومي لاستثمار الموارد الطبيعية والسياحية للشواطئ المصرية إلي قسمة تلك الموارد بين وزارتين أو بين وزيرين -الأمر الذي شبهته أنا بالرجل الثري الذي وزع ثروته بين ولديه وترك لكل منهما حرية التصرف في نصيبه من الثروة- فكان استثمار الساحل الشمالي المطل علي البحر المتوسط من نصيب وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة وكان يتولاها في ذلك الحين المهندس حسب الله الكفراوي الذي يعد الأب الروحي لاستثمار الساحل الشمالي, بينما كان استثمار الساحل الشرقي المطل علي البحر الأحمر وجنوب سيناء من نصيب وزارة السياحة وكان يتولاها في ذلك الحين الدكتور فؤاد سلطان وزير السياحة… فماذا حدث؟
اجتهد كلا الوزيرين في تنمية القطاع المسند إلي وزارته ولكن طبقا لرؤيتين متباينتين وكأن الدولة لا تملك رؤية تخطيطية قومية واحدة أو في أحسن الفروض كأن الدولة تقوم بتجربة الرؤيتين لرصد النتائج المترتبة علي كل منهما… فقامت وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة بتخطيط وتقسيم امتداد الساحل الشمالي غرب الإسكندرية وحتي ما قبل العلمين إلي قطع أراض أطلق عليها قري سياحية وتم بيعها للمستثمرين سواء كانوا رجال أعمال أو شركات مقاولات أو جمعيات تعاونية أو نقابات مهنية علي أن يقوموا بتخطيطها وتنفيذها وبيعها بنظام التمليك للمصريين لتكون بمثابة منتجعات للتصييف والإجازات, وطبقا للقانون الذي يحمي الملكية الخاصة لم يكن لوزارة الإسكان أي سلطة علي من اشتروا تلك الأراضي, تراقب جدية تنفيذ المشروعات عليها أو تحدد نوعية الوحدات أو طريقة التصرف فيها… ومع مرور السنين وبعد ما يقرب من أربعة عقود تحولت الشريحة الغالبة من أراضي الساحل الشمالي إلي قري غير سياحية تضم ملكيات خاصة لفيللات أو وحدات سكنية أو عمارات يقصدها ملاكها في فصل الصيف الذي يمتد نحو أربعة أشهر علي أفضل تقدير -من يونيو إلي سبتمبر- حيث تنعم بالحياة والصخب والأنشطة والخدمات, وبعد ذلك تغلق الوحدات وتهجرها الخدمات والأنشطة الموسمية وتتحول إلي مناطق موحشة لا حياة فيها ولا فرص عمل دائمة ولا مصادر دخل مستمرة.
علي الجانب الآخر قامت وزارة السياحة ببلورة رؤية سياحية لاستثمار ساحل البحر الأحمر وجنوب سيناء -والحقيقة أن تلك الرؤية حظيت بمباركة وتعاون محافظي البحر الأحمر وجنوب سيناء مما أسهم في نجاحها- حيث تم تخطيط وتقسيم السواحل وعرضها علي المستثمرين, ولضمان الالتزام بتنفيذ الرؤية السياحية التنموية التي وضعت للمنطقة, تم اتباع سياسة تقضي بتخصيص الأراضي للمشروعات عوضا عن بيعها للمستثمرين- وذلك حتي يمكن قانونا سحب قطعة الأرض وإلغاء تخصيصها في حالة تقاعس المستثمر عن تنفيذ المشروع بملامحه السياحية في المدة الزمنية المعتمدة له- كما تم اشتراط أن يشتمل المشروع علي ما لا يقل عن 75% من طاقته الاستيعابية خدمات فندقية تديرها شركة فندقة ولا تباع بالتمليك… وكانت لتلك الرؤية فوائد جمة حيث تحولت قري الساحل الشرقي إلي منتجعات سياحية تعج بالحياة طوال العام وتوفر فرص عمل مستدامة وتدر أرباحا مستمرة في صورة إيرادات سياحية تؤمنها السياحة الخارجية للأجانب أكثر كثيرا من السياحة الداخلية للمصريين مما أضاف دخلا سياحيا أنعش الدخل القومي.
هذه هي قصة الساحل الشمالي في مواجهة الساحل الشرقي, وهو الأمر الذي تحسر عليه كثير من الخبراء متمنين أن تستطيع الدولة تغيير واقع الساحل الشمالي بحيث تدب فيه الحياة ويتحول إلي منطقة تنموية تخلق فرص عمل دائمة ومتجددة وتفرز مجتمعا بشريا مستقرا, والجدير بالذكر أنه كانت هناك محاولة جادة واعدة لإنقاذ الساحل الشمالي من بياته الشتوي ولكنها لم تر النور -وسوف أتناول ذلك تفصيلا في مقال قادم لأنها لا تزال تمثل نمطا استثماريا وسياحيا منتشرا في أنحاء كثيرة من العالم… هنا جاء الخلاص بواسطة المشروع الطموح مدينة العلمين الجديدة الذي يعد نقطة تحول لنمط الاستثمار السائد في الساحل الشمالي وأعتبره أنا بمثابة مصالحة عمرانية وتنموية مع الساحل الشمالي… لكن ما هي ملامح ومقومات هذا المشروع الفذ؟… هذا ما سيكون حوله موضوع مقال قادم.