بقلم:عبد المنعم سعيد
لا يمكن تفسير ما حدث ويحدث فى تونس إلا بأنه يمثل ثورة للدولة الوطنية على محاولة عولمة الدولة ليس فى اتجاه «العولمة» التى نعرفها والقائمة على تحرير العالم من الحدود السياسية فى اتجاه المزيد من التقارب والعبور الكوكبى على الأرض، وإنما على تلك التى تقوم على «سيادة الأرض» من قبل جماعة الإخوان المسلمين ومن هم على شاكلتها من جماعات راديكالية ومتطرفة، ونعم إرهابية كذلك. الصراع ما بين الشكلين من العولمة أسفر عن نفسه مع مطلع القرن الواحد والعشرين عندما تهاوى برجا مركز التجارة العالمى فى نيويورك فى الحادى عشر من سبتمبر 2001 حينما تهاوى معهما عالم كامل من الأفكار والمثل وحتى السعى نحو التعايش بين الأديان والثقافات وحتى الحضارات. أو كان ذلك على الأقل ما تحاوله الدول والأمم بغض النظر عن مدى نجاحها أو إخفاقها فى تحقيق النموذج النقى لليبرالية التى باتت قيمها ومثلها هى الحاكمة للمواثيق الدولية التى تتالت بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى عندما اختلفت الدول الاشتراكية مع الدول الرأسمالية فإنها لم تنس اللجوء إلى ما سمته «الديموقراطيات الشعبية» لكى تبرر تطبيق مذهبها بصوة وبأخرى، وكان المعنى ساعتها أن طريقها إلى المساواة، والاعتراف بالآخر، أكثر اقترابا من الحقيقة. وعندما عممت «العولمة» التى جاءت نتيجة تكسر الأسوار والحواجز الاقتصادية والتكنولوجية والفكرية بين الدول، فإن المرجعية العالمية أصبحت «الحرية» فى السوق والرأى والمعتقد، وما بات يعد حقوق الإنسان الأساسية. وعلى أساس هذه الفكرة ظهرت أفكار أخرى عن «التدخل الإنسانى»، والتحول الديمقراطى، وعالمية الحقوق الإنسانية، والمحكمة الجنائية الدولية، وهكذا أفكار ومؤسسات.
وعندما تهاوت الأبراج فى نيويورك ومعها أفكار كثيرة بامتداد الكون، بل وأكثر من ذلك، برز افتراض «صراع الحضارات» الحتمى.
.. دفع ذلك بفجوة كبيرة بين عالم كان قد تغير بالفعل فى اتجاه التعايش الإنسانى بين البشر تبدى فى انتقال السلع والأفكار ومعهما البشر، وعالم آخر يسوده الخوف والتوجس من الآخر. وبشكل من الأشكال كان العالم يعيش تناقضا حادا بين آليات اقتصادية وتكنولوجية تضغط بشدة من أجل مزيد من التفاعل والتواصل والاتصال بين الناس، وحالة مرهقة من النفور والرفض للنتائج الثقافية والحضارية الناجمة عن هذه الحالة. وفى يوم من أيام القرن التاسع عشر قال كارل ماركس، ومعه طائفة أخرى من المفكرين، إن حدوث تناقض ما بين التطور فى قوى الإنتاج، وحالة علاقات الإنتاج، يمكنه أن يولد صراعا من نوع أو آخر. وإذا كان الصراع الذى رآه كان بالضرورة صراعا طبقيا، فإنه فى إطار العالم الذى نعيشه صار صراعا ثقافيا وحضاريا قيميا مع الآخر المختلف بطريقة ما حتى ولو كان الجار الذى يسكن فى الشقة المجاورة.
وكان ذلك هو ما استغلته جماعات الإسلام السياسى خلال الفترة التى اهتزت فيها مجتمعات عربية عديدة خلال ما سمى فى القاموس السياسى «الربيع العربى» حينما وجدت فى التناقضات الجارية فى الفلسفة الليبرالية والنظم الديمقراطية والخاصة بالتعامل مع الهويات والمعتقدات الدينية وسيلة للحشد والتعبئة تحت شعار محاربة الفساد تارة والدفاع عن العقيدة تارة أخرى. ووجدت هذه الجماعات فى أزمة «الرسوم الكارتونية» فى الدنمارك، ومنع مآذن المساجد فى سويسرا، دعوة كبيرة للمقاومة لما بدا هجوما على الدين والهوية الإسلامية. وعندما جاءت الولايات المتحدة بجيوشها إلى العراق وأفغانستان لم يكن ممكنا تفسير المسألة كلها دون إدخال التناقض فى إطار الأفكار، وفى وقت من الأوقات زعم الرئيس الأمريكى بوش، ومعه قيادات العالم الغربى، أنه يريد تغيير أفكار العالم الإسلامى من حالته المتعصبة إلى الديمقراطية. وبعد أن فشلت التجربة، وسقط بوش وخرج من البيت الأبيض، وجاء باراك أوباما إلى السلطة، ومنها جاء إلى القاهرة لكى يرسل منها رسالة إلى العالم الإسلامى للحوار والتحاب، بقى التناقض على حاله وظهر أنه سوف تكون له مظاهر وأشكال متعددة قد لا تبدو فى حد ذاتها خطيرة، لكنها منذرة بشدة لأنها تعمق من التناقض وتجعله متفجرا بصراعات لا يعرف أحد متى تأتى، وبالتأكيد متى سوف تنتهى.
والحقيقة هى أن المخرج الدينى من التناقض الداخلى فى «العولمة» كان فى النهاية مدمرا للإسلام والمسلمين، وفى النهاية الدول الإسلامية ذاتها من خلال حروب أهلية وأخرى للتدخل الإقليمى والدولى. المخرج الذى ظهر تدريجيا أنه يوفق ما بين هوية الدولة وعلاقاتها السلمية والبناءة مع العولمة كان
الدولة الوطنية ذاتها التى تجمع ما بين الإرادة المتعلقة بالتقدم وما فيه من عولمة وصلات مع العالم الخارجى، والسيادة التى تحفظ لقرارات الهوية ذاتيتها ومداها بحيث لا تقف حاجزا أمام التقدم والتواصل العالمى ولا أمام الطموح الذى يرفع من شأن الدولة والمواطن. وفى هذا الإطار فإن التجربة المصرية كانت ملهمة بعد أن كانت هى التى قطعت طريق الطوفان الذى تلى الخلل الكبير للانتفاضات التى جرت فى مطلع العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين. كانت
ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ فى مصر بداية تقهقر كبير فى تيارات العولمة الدينية واستخدام صدامها مع العولمة الغربية فى السيطرة والهيمنة على الدول العربية والدول الأخرى فى الشرق الأوسط. ولعلها لم تكن صدفة مدهشة أنه لوهلة بات ممكنا التلاقى بين النوعين من العولمة فى مواجهة الثورة المصرية بعدما تمكنت حركة الإخوان المسلمين من طرح نفسها عالميا على أنها حركة عالمية معتدلة وديمقراطية، كما هو الحال فى الأحزاب الغربية الديمقراطية المسيحية. وكان فى ذلك الكثير من الغش والتدليس الذى ظهر أكثر ما ظهر فى الحالة التونسية التى ظهرت كما لو كانت النقيض الديمقراطى للحالة المصرية.
ما كان غائبا تماما عن التفكير الغربى هو أنه أيا كانت ادعاءات الجماعة الإخوانية، ومظاهر حزب الغنوشى فى تونس، فإن شرط الكفاءة فى إدارة الدولة، ووحدة قطاعاته الأمنية، هى الأساس الذى تقوم عليه الدولة قبل كل شىء آخر. وبالمقارنة فإن معدلات النمو الاقتصادى فى مصر كانت أكثر من ضعف تلك فى تونس، والوحدة والاستقرار فى مصر أكثر بكثير من القلق التونسى، وأكثر من ذلك فإنه بينما كان عدد الإرهابيين التونسيين الذين التحقوا بداعش يتجاوز خمسة آلاف، فإن عدد المصريين لم يتعد ثلاثمائة. وفى النهاية فإن كثيرا مما حدث فى مصر جرى فى تونس حينما وجد الشعب أن حكم الجماعة لا يعنى الكثير لا فى تحقيق طموح الجماهير، ولا تحقيق السرعة فى اللحاق بالعالم. حالة
الدولة الوطنية هى التى تجهز الدولة للحاق بالعصر والعالم مع الحفاظ على الهوية الوطنية فى نفس الوقت.
نقلا عن المصرى اليوم