إعداد / نجيب محفوظ نجيب.
تصوير / هانى ساويرس.
بابتسامة هادئة ترتسم على وجهه و بصوت ذو نبرة منخفضة ، يبدأ الأستاذ الدكتور محسن زهران كلامه. يأخذنا في رحلة مليئة بالذكريات وغنية بالتفاصيل. إنه يتذكر اللحظات الخاصة التي أثرت ليس فقط على حياته بل وأيضًا على حياة حبيبته: مصر ، حبه الأبدي. طوال الوقت ، يشعر د. زهران أن مصر لها فضل عليه. فهى التى أرسلته في منحة إلى الولايات المتحدة لمواصلة دراساته العلمية.
" بمجرد انتهائى من دراستى فى الولايات المتحدة قمت بالتدريس في جامعة كولومبيا Columbia University و فى نفس الوقت التحقت بالعمل فى مكتب هندسى SKIDMORE, OWINGS & MERRILL. ( SOM )
المكتب ده اكتسبت منه خبرة عملية كبيرة. ثم عدت إلى مصر لكى أبدا التدريس فى كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية." يحكى الدكتور محسن.
و بعد سنوات قليلة تم انتدابه للتدريس بجامعة بيروت التى كانت تابعة لجامعة الإسكندرية فى هذا الوقت حيث استمر لمدة ثماني سنوات ثم عاد بعدها إلى جامعة الإسكندرية و حصل على درجة أستاذ مساعد ثم أستاذ عام 1978م.
و بعد أن أصبح أستاذا تم تعيينه عميدا لكلية الهندسة المعمارية جامعة بيروت.
و بمرور الوقت أصبح رئيسا لقسم الهندسة المعمارية كلية الهندسة جامعة الإسكندرية من عام 1994 و حتى عام 1998.
طوال حياته العملية اختار ان يخدم متطوعا فى مختلف المواقع و المناصب التى تقلدها.
فقد رفض أن يتقاضى أى مقابل مادى فى سبيل خدمتها.
•كان الدكتور زهران عضوا نشطا فى عمليات التخطيط العمرانية الشاملة والتنمية الحضرية لمحافظة الإسكندرية. ففى عام 1982، و بصفته أستاذ التصميم و التخطيط العمرانى اشترك مع رئيس قسم الهندسة المعمارية كلية الهندسة جامعة الإسكندرية بعمل تخطيط مستقبلي لمدينة الإسكندرية.
و بعد ستة أشهر أصبح هو المسئول عن جهاز التخطيط الشامل الذى أنشأ بناءا على عقد تم ما بين جامعة الإسكندرية و محافظة الإسكندرية. و هو جهاز يجمع بين خبرات أساتذة الجامعة و الموظفين التنفيذيين فى المحافظة، لخلق ترابط بين الجامعة و المجتمع لكى يصبح الجميع شركاء في إتخاذ القرار.
" عندما كنت رئيسا لجهاز التخطيط الشامل، قمت بعمل المشروعات ذات الأولوية القصوى فى مجال البنية الأساسية و الطرق. و عند إنتهاء العمل فى جهاز التخطيط الشامل، أصبحت مسئولا عن جهاز جديد اسمه جهاز متابعة تنفيذ التخطيط الشامل، لأن عملية التخطيط هى عملية مستمرة و تحتاج دائما المتابعة و التطوير ، لأن السكان فى حالة تحرك دائم و تغيير لمواقعهم. و التخطيط يخدم الناس و احتياجاتهم المستمرة المتغيرة. " يعبر الدكتور زهران
.
فى هذه الأثناء، كان الدكتور زهران مسئولا عن التصميم والإشراف على تنفيذ مشروع الحديقة الدولية بالاسكندرية. كما أنه أهتم اهتماما كبيرا بالحفاظ على الآثار و عدم هدم المبانى ذات القيمة التاريخية و التراثية.
و نظرا لما قام به من إنجاز فى مجال التخطيط، استدعاه رئيس جامعة الإسكندرية و طلب منه العمل على شراء مبنى القنصلية الإنجليزية الذى يقع في محطة الرمل، لأن القنصلية الإنجليزية كانت قد انتقلت إلى مقر جديد لها فى كفر عبده. فطلب ملف القنصلية من رئيس الجامعة الذى أعطاه سلطات رئيس الجامعة.
ذهب الدكتور زهران إلى القنصلية الإنجليزية بصفته ممثلا لرئيس الجامعة و طلب أن يضطلع على العقد.و ما أن قراه حتى وجد أن أرض القنصلية الإنجليزية كانت منحة معطاة من قبل الحكومة المصرية أيام الملك فؤاد.
" قلت للقنصل الإنجليزى : أن أرض القنصلية الإنجليزية هى منحة أعطيت لكم من الحكومة المصرية لكى تبنوا عليها مبنى القنصلية. فالأرض ليست ملكا لكم. فقال لى : و لكننا بنينا عليها مبنى القنصلية. قلت له : و لكن الأرض ليست ملكا لك. فأنت تبيع ما لا تملكه. استمريت فى التفاوض معه بخصوص الموضوع و أخيرا قلت له : زى ما الدولة المصرية منحتك الأرض أنت كمان ترجعلها الأرض اللى بتملكها لأن الجامعة حا تستخدم الأرض دي لأغراض تعليمية مش لأغراض تجارية. فأنت تعمل خير للبلد تديلها الأرض اللى بتملكها بدل ما تديلها معونة. أخيرا استطعت أن إقناعه و تم تقدير ثمن المبنى باثنين مليون جنيه فى الوقت الذى كانت فيه القنصلية تريد بيعه لرجال الأعمال باثنا عشر مليون جنيه
.
تم عمل العقد و قام بالتوقيع عليه القنصل الإنجليزى و رئيس جامعة الإسكندرية
و بعد توقيع العقد استلمنا أرض القنصلية الإنجليزية و قلت لمدير المبانى فى الجامعة : هات علم مصر و أرفعه فوق القنصلية. القنصل الإنجليزى كان موجود و شاف بنفسه علم مصر فوق القنصلية ساعتها لاقيته بيقول لى
" You have done it. You have done it.
. يتذكر الدكتور زهران.
قام الدكتور زهران بدور مؤثر و فعال في مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة.
هذه القصة بدأت في عام 1967عندما وجد الدكتور زهران أن جامعة الإسكندرية ليس لها مكتبة و نظرا لأنه يرى أن الجامعة أساسها مكتبة، قام بعمل دراسة عن المكتبة و موقعها الذى كان ملكا لمحافظة الإسكندرية لخدمة إحتياجات المحافظة و لكن المحافظة أعطت الأرض لجامعة الإسكندرية التى كانت في بداية تاسيسها و تحتاج إلى ارض لكى تبنى عليها مبانى جامعية.
تم اتخاذ قرار تأسيس المكتبة فى هذا الموقع عام 1978.
و فى عام 1986، قام بعمل دراسة علمية أخرى هى عبارة عن تصور لشكل المكتبة و محتوياتها كيف سيكون.
تأسيس المكتبة بدأ فعليا بإنشاء الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية عام 1988.
تم عمل إتصال مع منظمة اليونيسكو التى رأت أن المشروع ليس مشروع إنشاء مكتبة لجامعة الإسكندرية و لكن مشروع إحياء لمكتبة الإسكندرية القديمة.
" عندما رجعت إلى كتب التاريخ وجدت أن جامعة الإسكندرية كان أسمها فى بداية تأسيسها جامعة فاروق الأول. و أثناء إنشائها، ألقى الدكتور طه حسين( مدير جامعة الإسكندرية وقتها ) خطابا أمام الملك فاروق قال فيه بمناسبة إنشاء الجامعة 1942 : يعتبر إنشاء جامعة الإسكندرية هو إحياء لمكتبة الإسكندرية القديمة. و تم صك عملة على أحد وجهيها صورة لرأس الاسكندر الأكبر و على الوجه الآخر صورة لرأس فاروق الأول. و مكتوب عليها باللغة العربية : الاسكندر الأكبر مؤسسها و فاروق الأول ملكها. ففكرة إنشاء جامعة الاسكندرية كانت هى نفسها فكرة إحياء لدور مكتبة الإسكندرية القديمة و ليس شكل المكتبة القديمة و هذا يعنى متابعة الامتياز فى العلم و فى المعرفة. ".يؤكد الدكتور زهران
.
كان الدكتور زهران يرى ضرورة أن تتبنى منظمة اليونيسكو بنفسها مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة، لأن العالم الغربى يعرف أنه درس و ورث العلوم و المعارف التى توجد لديه حاليا عن علماء مكتبة الإسكندرية القديمة. فهم يدينون للعالم بإحياء ها من جديد لأنهم استفادوا من علماءهها. و كان دائما يقول :" أن مكتبة الإسكندرية هى نافذة مصر على العالم و نافذة العالم على مصر." هذه الجملةالتى أصبحت رسالة تحملها المكتبة نحو مصر و نحو العالم كله.
تم تعيين الدكتور زهران مديرا للمكتبة، و اتخذت جامعة الإسكندرية قرارا بتخصيص الموقع لمشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة متضمنا قاعة المؤتمرات التى تم بناءها أصلا لكى تكون مجمع لمدرجات كليات العلوم الانسانية، و لكنها تحولت فيما بعد إلى قاعة مؤتمرات و إحتفالات خاصة بجامعة الإسكندرية.
كان رئيس الجامعة قد طلب من الدكتور زهران أن يقوم هو نفسه بعمل تصميم المكتبة بصفته أستاذ العمارة فى الجامعة، لكنه فضل عمل مسابقة عالمية تكون تحت إشراف منظمة اليونيسكو لكى تجذب أنظار العالم إليها.
و تم تشكيل لجنة تحكيم دولية كان الدكتور زهران أحد أعضائها لإختيار التصميم الهندسي الأفضل.
" و نظرا لأن المشروع عالمي بهذا الشكل، تم التقدم بسحب مستندات المسابقة من قبل 1300 مكتب هندسى من 77 دولة على مستوى العالم. لكن الذى تقدم و شارك بالتصميمات فعليا 450 مكتب هندسى من 44 دولة. و تم اختيار أفضل تصميم هندسى من دولة النرويج. و ابتدأت الخطوات الفعلية التنفيذية. و قامت الدولة بإنشاء لجنتين للمشروع : لجنة دولية و لجنة تنفيذية. اللجنة الدولية للمشروع برئاسة السيدة سوزان مبارك زوجة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك و عضوية شخصيات عامة دولية من عدة دول مثل : فرنسا، إنجلترا، إيطاليا، أمريكا،السعودية، الإمارات.
واللجنة التنفيذية للمشروع برئاسة وزير التعليم العالي و البحث العلمي و عضوية شخصيات عامة محلية من الإسكندرية و القاهرة لكى تعطى البعد القومى، مثل : رئيس جامعة الإسكندرية و محافظ الإسكندرية و بعض المفكرين و الأدباء و الصحفيين. " يصرح الدكتور زهران.
أصدر وزير التعليم العالي والبحث العلمي قرارا بتعيين الدكتور زهران مديرا لمشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة و مديرا للهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية.
و أثناء مراحل البناء للمكتبة رأى الدكتور زهران أن المكتبة فى حاجة إلى كتب و موظفين و إمكانات. ففيما يخص الكتب بدأ يتصل بالناشرين من خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب فى مصر و معرض فرانكفورت الدولي للكتاب فى ألمانيا لكى يحصل منهم على الكتب التى يريدها. أيضا قام بعض المفكرين و رجال الأعمال بتقديم اهداءات من مكتباتهم الخاصة.
أما بالنسبة للموظفين الذين عينهم فقد اشرف على تدريب عدد من أمناء المكتبات على المعايير الدولية من خلال المنح الدراسية. فقد أستطاع الحصول على 50 منحة لتدريبهم في عدد من الدول منها : أمريكا، كندا، فرنسا،إيطاليا، إسبانيا، إنجلترا.
و قام بعمل جمعيات لأصدقاء المكتبة (18 جمعية ) على مستوى العالم لكى يأتوا إلى مصر و يلتقوا كل عام لتقديم الدعم العينى و المادى.
و من أعمال الدكتور زهران التى قام بها من أجل المكتبة أيضا : مكتبة الطفل، المكتبة الرقمية من الحكومة اليابانية Audio Visual Library ، قاعة نوبل من الحكومة السويدية للتعرف على العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء،الفيزياء، الآداب، الفنون، الطب أو علم وظائف الأعضاء، العلوم الاقتصادية.
مكتبة الإسكندرية أحدثت تطويرا و ارتقاءا عمرانيا بمدينة الإسكندرية بشكل غير مباشر لأن الدولة اهتمت بمشروعات التخطيط العمرانى الخاصة بالمدينة و اعطتها تمويلا حوالى 30 مليون جنيه للانتهاء من هذه المشروعات إستعدادا للافتتاح العالمى.
و فى مارس 2001، بعد سنوات حافلة بالجهد و العطاء المخلص، قدم الدكتور زهران إستقالته و ترك المكتبة. " ذهبت لوزير التعليم العالي والبحث العلمي و تقدمت إليه بخطاب الاستقالة ثم عدت مرة ثانية أستاذا للهندسة المعمارية في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية. " قال الدكتور زهران.
و بالرغم من أنه ترك المسئولية فى المكتبة منذ عام 2001 إلا أن بعض المراسلات و المخاطبات الخاصة بالمكتبة لازالت تأتى على عنوان منزله.
ولأن الدكتور زهران يؤمن بقيمة العلم و المعرفة فى الارتقاء بحياة الناس، قد أثرى المكتبة العلمية بمؤلفات عديدة فى مجال الهندسة المعمارية منها:
- Challenges of the Urban Environment Paperback – 1973
by Mohsen Zahran (Author). Publisher : Beirut Arab Universtiy (1973)
- Validity and illusions in architecture Unknown Binding – 1979
by Mohsen Moharram Zahran (Author). Publisher: Beirut Arab University (1979).
- فلسفة التصميم : قيم التشكيل والنقد المعماري تجاه المتغيرات المعاصرة. دكتور محسن زهران، إصدار دار المعارف مصر 1977.
- مكتبة الإسكندرية الجديدة. ... رحلة مليئة بالإنجازات. دكتور محسن زهران، إصدار مكتبة الإسكندرية، مصر 2007.
تكريما لإنجازاته و عطاءه الغزير، حصل زهران على العديد من الجوائز الشرفية الدولية والمحلية، بما في هذا وسام التميز من الدرجة الأولى من مصر لعمله على تخطيط محافظة الإسكندرية، فضلا عن وسام الاستحقاق الفرنسي لعمله في مشروع مكتبة الإسكندرية. و جائزة الدولة التقديرية عام 2009.
و مع هذه الرحلة الطويلة المليئة بالتفانى و الإخلاص فى العمل الأكاديمي و التى تستمر منذ عام 1965 و حتى الآن، يتحدث الأستاذ الجامعى بمزيد من الحزن و الأسى عن واقع شباب اليوم كما يلمسه بنفسه قائلا : " أشعر بأن قيم الوفاء و الانتماء و العطاء قد قلت. محتاج أن الشباب يرجع له روح القيم دى ثانى. و دى قيم ما تقدرش تشتريها لأنها قائمة على التربية. فالحب لا يزرع و لا يعلم الحب يكتسب و يعطى. و ده يبتدى بالتربية. بناء الإنسان صعب و يبتدى من الأسرة. الأسرة لازم تقوم بواجبها و المجتمع لازم يقوم بواجبه. الأوطان بتعتمد على أبنائها. أنا خايف على مصر. "
و فيما يتعلق بتعليم الهندسة المعمارية، يطمح الدكتور زهران فى الارتقاء بمستوى التعليم العالي بشكل عام و يتمنى توفير إمكانات بشرية ذات كفاءة عالية الجودة و أيضا إمكانات مادية أكثر للجامعات كما يوصى بحسن إختيار أعضاء هيئة التدريس فى الجامعة ".