مصطفي الفقي
الأصل فى الحياة منذ بدء الخليقة أنها سلسلة متصلة فى حلقات من أسباب المعاناة وعوامل القلق ودوافع التوتر، ومَن يتصور أنه عند مرحلة معينة سوف تتراجع كل مشاكله وتختفى أسباب معاناته فهو واهم لا يعرف فلسفة الحياة وهندسة الكون وطبيعة الوجود، وسوف تظل الصراعات تنهش فى الجسد الإنسانى، وسوف تبقى الخلافات تعبث بالعقل البشرى، ولن يستريح البشر إلا بالانتقال إلى الحياة الأخرى ذات الطابع الأبدى، الذى تستريح فيه المخلوقات وتهدأ الكائنات مهما كان بريق الدنيا ومهما تلألأت أضواء الحياة الأولى، والمصريون قادمون عبر التاريخ من شرائح صلبة من البشر الذين كانوا على أرضها منذ البداية أو الذين جاءوها مع النزوح الإفريقى جنوبًا أو النزوح العربى شرقًا أو حتى الذين وفدوا إليها من الشمال الأوروبى أو الغرب المغاربى، فكانت بحق بوتقةً متعددة الألوان من كل مكان، ونظرًا لأنها أرض خصبة فقد ظلت بقعة مباركة تجذب البشر وتمثل أرضًا واعدة للقادمين إليها الذين تستهويهم الحياة فوق أرضها الطيبة يأكلون ويشربون ويثرثرون ويعملون، ولكن يظل ارتباطهم بالأرض وثيقًا، ويبقى المصرى دائمًا فى حالة انتظار للحظة تتحقق فيها آماله، ولكن تلك اللحظة تبدو بعيدة كلما اقترب منها البشر، والذين يتساءلون متى يستريح المصريون إنما يطرحون سؤالًا افتراضيًا فى واقع الأمر، فالوجود لا يستقر على حال، وحياة البشر فوق كوكب الأرض ليس لها ضمانات، كما أن الإنسان يحمل فى داخله عوامل فنائه وأسباب رحيله، لذلك فقد أصبح من المتعيّن علينا أن نعيش الحياة بالفلسفة التى تقول (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)، وهى ذات الفلسفة التى نستشفها من قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه)، ونحن هنا نتساءل: هل هناك شعوب كُتبت عليها أسباب الشقاء وأنواع الضغوط ليحيا أبناؤها حياة لا تخلو من معاناة دائمة وأزمات محكمة، ولكن تنطلق عبقرية البشر لتصنع بذكاء اليدين- على حد تعبير الدكتور سليمان حزين، رحمه الله- الحضارة الملهمة وتضع اللبنات الأولى لما شيّده العقل البشرى منذ فجر التاريخ. ولنا هنا ملاحظتان:
أولًا: إن الانصهار السكانى والاندماج البشرى فى مصر مع غياب العنصرية والطائفية والتعصب قد أدى فى مجمله إلى حياة لا تخلو من استرخاء ولا تبرأ من شعورٍ عام بالاستقرار. ليس لدينا أعاصير ولا زلازل ولا فيضانات ولا براكين إلا فيما ندر، فاستمرأ المصريون الحياة اللينة فى معظمها، وأصبحت الكوارث والفواجع أمرًا يفوق الخيال لدى المصرى، الذى لا يعرف إلا الأرض والنهر ويبحث عن الرزق ويعبد رب الخلق، ولا شك أن تلك الدعة قد أدت إلى حالة من حالات الاسترخاء وصرفت المصرى دائمًا إلى طلب المزيد، بل ربما عطلت بقدرٍ ما شيئًا من حيويته وقدرته.
ثانيًا: إن مصر دولة ينطبق عليها تعبير الوسطية، فهى لا تعرف التطرف فى أعماقها ولكنها تسعى إلى التعدد فى أعراقها فى عملية مواءمة تلقائية بين المتناقضات التى تحفل بها، والذين تخصصوا فى التاريخ الاجتماعى لمصر أدركوا عن يقين أن ذلك البلد المعطاء هو حارس حضارات وصانع ثقافات لا يتوقف عطاؤه ولا يخبو نوره أبدًا، ولكن ذلك يجب أن يدعو المصريين والمصريات إلى المزيد من العمل الدؤوب والجهد المخلص لتشكيل دعائم دولة قوية تعيد للدور المصرى مكانته وتضع سياساته الوطنية فوق كل الاعتبارات الشخصية أو المرحلية، إننا نؤمن عن حق بأن مصر هى كنانة الله وأنها عصِيّة على السقوط ولن تُضام أبدًا، ففيها خير جند الأرض، وعلى أرضها تحدث موسى إلى ربه من طور سيناء بعد أن اكتشف المصرى القديم معادلة التوحيد وآمن بالرب الذى يعلو على كل شىء، وعلى أرض مصر أيضًا مضى الموكب الصغير للسيد المسيح طفلًا يلوذ بهذه الأرض ابتعادًا عن بطش الرومان وملاحقة الحاكم الذى يتعقبه هو وأمثاله من الأطفال الأبرياء فى أرض فلسطين. وهى أيضًا مصر التى صاهرها النبى محمد بالزواج من مارية القبطية القادمة من محافظة المنيا فى شمال صعيد مصر.
لن يستريح المصريون بين يومٍ وليلة لأن سنة الحياة هى المعاناة المتصلة، بل إن متعة الوجود ولذة البقاء إنما تأتى كلها من حالة اليقين الكامن بنفس راضية، والعقل الذى لا يتوقف عن التفكير، والقلب الذى يظل يدق إيذانًا باستمرار الحياة مهما كانت المتاعب، ومهما تراكمت المصاعب، ومهما تزايدت التحديات.
نقلا عن المصرى اليوم