سحر الجعارة
لا أدرى ما الذى دفعنى لمشاهدة رائعة المخرج الراحل يوسف شاهين «المصير»، وكأننى أعيد قراءة «النبوءة»، أعيد مصافحة النجوم الذين عايشت شبابهم وسنوات نضجهم، لم أكن أعلم أن ذكرى رحيل النجم «نور الشريف» توافق يوم كتابة هذه الكلمات، وما زلت لا أصدق لأن «ابن رشد» بنبرته الواثقة وتعاليمه لتلاميذه دروساً فى الفلسفة والطب والفلك والحب والحق والعدالة يسيطر على كل حواسى.. لا أكاد أشعر إلا بلغة العاشق للفكر، ونبرة الواثق من فوزه على «خفافيش الظلام»، وحكمة السياسى المحنك الذى يدرك أن ابتلاع «الأمير» للوطن يعنى سقوطه بين أيادى الأعداء.. هذا هو «نور»، تلك كانت قناعاته، كان مؤمناً بأن تحرُّر الإنسان من الاستلاب لسطوة «الأمير» لا يتأتى إلا بالعلم.

فى سنة أولى صحافة، ذهبت لأجرى حوارى الصحفى الأول، اقتحمت خلوته وهو جالس وسط كتبه، تماماً كما «ابن رشد».. وقرر «نور» أن يمنح صحفية فى أولى خطواتها أجرأ حواراته لمجلة «الكواكب».. أن يسقط حاجز الخجل والتردد ويفتح لى أبواب الثقافة والمعرفة، نقلنى إلى خانة الانبهار بغزارة معلوماته، ومنحنى قبساً من نوره.. ورحلت أحمل أجمل صفاته: تعلم أن تكون نفسك.. أن تكون عجوزاً على الشاشة رغم صباك (مثل «كمال» بطل رائعة نجيب محفوظ فى «قصر الشوق»).. وشاباً تعاند الزمن حتى لا يكسر عنفوان عطائك مهما تقدم بك العمر.. تماماً كما قدم لنا «بتوقيت القاهرة» برئة لا تفيه حقه فى التنفس!.

كانت صراحة «نور» صادمة لشابة فى عمرى وقتها، وهو يفتح أوراقاً صفراء ذابلة فى دنيا الثقافة، لكننى توقفت أمام وصفه لتجسيد الحزن العميق فى عيون «كمال» ليصبح بعدها رقم «1» على الشاشة والمسرح.. لقد بدأ التحدى فى رحلة العشق والإبداع.

ساعتها أفقتُ من سيناريو «حبيبى دائماً» الذى أحفظه بالحرف، لكنَّ مشهداً واحداً لم يفارقنى وهو يقول لمعشوقته «بوسى» إن العشاق يتشابهون ويحملون ملامح بعضهم.. فكنت أرى «بوسى» محفورة على جبينه.

«نور» حالة فنية استثنائية.. يلتحم فيها الإبداع بالإيمان بقضايا مصيرية، «ماستر سين» يتمزق فيه الإنسان بين شياطين «زمن حاتم زهران» وملائكة «آخر الرجال المحترمين»!.

هل رحل «نور» فعلاً دون أن يكمل ترنيمته، دون أن يلقى أشعار العبقرى «عبدالرحمن الشرقاوى» على لسان الإمام «الحسين»، رضى الله عنه، فى «ثأر الله»: «ما شرف الرجل سوى كلمة.. ما شرف الله سوى كلمة.. أتعرف ما معنى الكلمة؟.. مفتاح الجنة فى كلمة.. دخول النار على كلمة.. وقضاء الله هو الكلمة.. الكلمة نور وبعض الكلمات قبور».. فكم من كلمات حفرتها بعمرك فى ذاكرة السينما لتبقى أقوى من الرحيل وأبقى من الغياب.

كان «نور» مستعداً لأن يعتزل الفن فى حال موافقة الأزهر على تجسيده شخصية «الحسين»، رضى الله عنه، تماماً مثلما كانت لديه رغبة قوية فى تقديم فيلم عن حرب أكتوبر، ففوجئ بالمسئولين يطلبون منه مقابلاً مادياً ويتحججون بعدم وجود الإمكانيات.. فودّع أحلامه، ربما، مكتفياً بأنه قدم ملحمة وموسوعة مرئية.. لا تكفيها دكتوراه واحدة فى سوسيولوجيا الفن.

«نور» هو جزء لا يغيب من ذاكراتنا، وحب لا يسقط بالتقادم، لأنه شكَّل وعينا بكلمات «ابن رشد»: «إذا كنت تبكى حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكى الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهى تطير لأصحابها».
نقلا عن الوطن