يوسف سيدهم
في معرض التغطيات الإعلامية التي تواكبت مع احتفالات 30 يونيو الماضي والذكري الثامنة لانطلاق ثورة الإنقاذ والتصحيح والتطوير علي جميع الأصعدة في مصر, تم تسليط الضوء علي الجهود الجبارة التي بذلت ولاتزال تبذل لإحياء القاهرة الخديوية, تلك المنطقة التاريخية التي تشكل مركز وسط القاهرة والتي اكتسبت اسمها تخليدا للخديوي إسماعيل الذي أنشأها إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر متأثرا بتخطيط العاصمة الفرنسية باريس, لذلك لم يكن غريبا أن تتسم القاهرة الخديوية بميادينها المتعددة التي تربطها شوارع عريضة علي جانبيها مبان تجمع بين الفخامة والإبداع والجمال وتعكس طرازي العمارة الكلاسيكية وعمارة عصر النهضة لتضيف إلي القاهرة تحفة معمارية حضارية استحقت أن تسمي باريس الشرق.
وعبر ما يربو علي قرن من الزمان منذ تأسيس القاهرة الخديوية كانت المنطقة درة في جبين القاهرة ليس في روعة وجمال مبانيها وشوارعها وميادينها فحسب, لكن أيضا في القيمة المتميزة التي احتلتها اجتماعيا واقتصاديا وتجاريا وثقافيا… ثم -ويا للأسف- هبت عليها رياح تغيير عصفت بالأخضر واليابس بطول مصر وعرضها منذ خمسينيات القرن العشرين وما تلاها من عقود حتي العقد الأول من الألفية الثالثة, فتركتها في حالة يرثي لها من الإهمال وانعدام الصيانة وتردي الأوضاع نتيجة قوانين تأميم جائرة وقوانين إيجارات متجمدة أدت إلي رحيل ملاكها وهجرة قاطنيها وشاغليها ممن كانوا ينتمون إلي أفضل طبقات المجتمع ليحل محلهم العامة الجهلاء الذين ساهموا في تشويهها واستنزافها إلي أقصي الدرجات خارجيا وداخليا.
لكن لحسن الحظ اتجهت سياسة الدولة مؤخرا إلي تطوير المناطق التاريخية في القاهرة وفي صدارتها القاهرة الخديوية… تطوير شمل الميادين مثل ميدان التحرير (الإسماعيلية سابقا) وميدان طلعت حرب (سليمان باشا سابقا) وميدان مصطفي كامل, بالإضافة إلي المحاور الرئيسية التي تربطها مثل شوارع قصر النيل وشامبليون وطلعت حرب وعبدالخالق ثروت ومحمد فريد وعماد الدين وغيرها… وكان التطوير يتضمن سائر المباني والمحلات التجارية والخدمات المطلة علي تلك الميادين والشوارع بحيث يتم تجديد وترميم وإحياء واجهاتها الخارجية وإبراز طرزها المعمارية وتشكيلاتها الزخرفية وتنقيتها من جميع أشكال الاعتداءات والتشويه التي تعرضت لها نتيجة عشوائية وانفلات اللافتات وغيرها من عناصر القبح المتروكة بلا حساب أو مساءلة.
والحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن الإنجازات التي تمت في إطار إنقاذ وإحياء مباني القاهرة الخديوية هو إنجاز يثلج الصدور بجميع المقاييس ويبعث الأمل في استعادة هذه المنطقة اسم الشهرة الذي اكتسبته في زمان أمجادها: باريس الشرق… لكن -وآه من لكن- الحلو مايكملش… فكل جهود بعث الحياة في القاهرة الخديوية انصبت علي الغلاف الخارجي لمبانيها دون الخوض في عناصرها الداخلية ومرافقها… وتلك حقيقة مرة لا يدري بها سوي من يشغلون تلك المباني ومن يترددون عليها, ولا يدركها الكافة الذين يتحركون في الشوارع وينظرونها من الخارج ويعجبون بالجهود التي بذلت في تجديدها خارجيا فقط!!
فالحقيقة المحزنة المسكوت عنها في هذا الملف أنه بينما تزهو واجهات تلك المباني وزخارفها وعناصرها المعمارية وشرفاتها وشبابيكها وموادها وألوانها باستعادة شبابها وجمالها ورونقها وجاذبيتها, هناك من العناصر الداخلية التي تغار منها وتعاني من التدهور والإهمال والتآكل مثل السلالم والمصاعد وسلالم الخدمة ومصاعد الخدمة والبدرومات والأسطح بمشتملاتها وشبكات المرافق الداخلية من مياه وصرف صحي وصرف أمطار وكهرباء -وأنا لست أتحدث عما بداخل شقق تلك العمارات حتي لا يقول أحد إنها مسئولية شاغليها, إنما أتحدث عن سائر العناصر العامة للحركة الرأسية والأفقية والخدمات والمرافق بها.
ولعلي في هذا الصدد أشير إلي ما كتبته في هذا المكان تفصيلا حول هذه القضية بتاريخ 2021/4/4 تحت عنوان من بره هاللا هاللا.. ومن جوه يعلم الله وهو ما يترك تساؤلات مهمة حول إنجازات ملموسة.