بقلم: نبيل شرف الدين
رغم أن مصير "الجنرالات العجائز" لم يعد يعنيني كثيرًا، لأنهم باختصار "باعوا القضية" وظهرت حقيقتهم الضعيفة والهشة، لكن ما جرى يعني بالنسبة لي ولملايين غيري أن هناك في الكواليس اتفاقاً.. صفقة.. صيغة.. سمها كما شئت، مفادها أن يوفّر قرار مرسي خروجاً آمناً للجنرالات "الشيوخ"، ربما لا أبالغ إذا قلت إنه يتجاوز ذلك "الخروج الآمن" الذي كان قد وعد به منافسه أحمد شفيق في حال وصوله لسدة الحكم.
وهنا نتساءل عن سر القرارات التي فاجأت المصريين جميعاً بتفكيك "مجلس الجنرالات الهشّ"، ورغم ذلك فقد أبقى مرسي على المشير الثمانيني والفريق السبعيني كمستشارين له، مما يضمن لهما الحصول على ملايين الجنيهات كمرتبات شهرية من جيوب دافعي ضرائب لهذا هناك هيئات وشخصيات لها وزنها تطالب بمساءلة كل أعضاء المجلس العسكري، رغم أن صفحتهم طويت، وصفقتهم أبرمت وانتهت ، لكنهم برأي المطالبين بمقاضاتهم "مسئولون عن الكوارث التي حدثت منذ قيام الثورة حتى تسليم السلطة.. بدءاً من "مذبحة ماسبيرو"، و"موقعة شارع محمد محمود أمام وزارة الداخلية"، و"غزوة العباسية" وحتى مجزرة بورسعيد وغيرها.
 
"أخونة مفاصل الدولة"
كما لا ينبغي ألا يُنسينا هذا أمر آخر أخطر، وهو إلغاء الإعلان الدستوري المكمل، والإصرار على "أخونة الدولة"، فمن خلال قراءة قانونية ليس من حق رئيس الجمهورية إلغاء "الإعلان الدستوري المكمل"، الذي أصدره المجلس العسكري في 17 يونيه 2012، باعتباره حينها صاحب السلطة التأسيسية التي آلت إليه بعد وقف العمل بدستور 1971، والظروف الاستثنائية التي طرأت على البلاد عقب أحداث ثورة 25 يناير، وهو ما ترتب عليه أن المجلس العسكري كان يحق له إصدار إعلانات دستورية، لهذا كان "الإعلان الدستوري المكمل"، يمثل في جوهره "دستوراً مؤقتاً"، لا يجوز إلغاؤه إلا من خلال السلطة التي أصدرته، وليس مرسي .. الذي نعرف جميعا أنه "واجهة" لشبكة معقدة من المتنفذين وقادة جماعة الإخوان المسلمين وحزبها، ناهيك عن مرشدها العام القطبي محمد بديع، ونائبه الصقر خيرت الشاطر "مهندس التفاهمات" بين الإخوان والعسكر، وما اصطلح على تسميتها بأجهزة الدولة العميقة
أستاذنا الفقيه الدستوري د. إبراهيم درويش يرى أن "إعلان مرسي" الجديد ليس صحيحًا من الناحية القانونية؛ لأن رئيس الجمهورية لا يملك إصدار نصوص دستورية، وبالتالي فإن الإعلان الدستوري الذي أصدره "مرسي" لم يكن شرعيًا؛ بل هو إعلان منعدم قانونيًا، وقال لي الدكتور درويش بالنص: "يمكنني أن أتقبل مسألة أن يصدر الرئيس محمد مرسي إعلانًا دستوريًا ، لكن إذا قال إنه أجرى انقلابًا سياسيًا ، وبات يحكم الآن بشرعية الأمر الواقع، وليس بالشرعية التي جاء بها رئيسًا للبلاد".
 
"عُصبة الإخوان"
ومادام رئيس الجمهورية نفسه يتصرف على هذا النحو، كما سبق له وتحدى المحكمة الدستورية العليا في قراره الشهير، وخيرًا فعل أنه تراجع، لكن هذا السلوك يبرر مخاوفنا ويجعلها مشروعة وربما واجبة، وأقصد هنا نحن كل أنصار الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنين وليست "دولة المؤمنين"، الدولة التي يرفع رايتها "مواطن حر"، وليس "أمير المؤمنين".. أو "الفقيه الوليّ".
 
ولعلنا لا نبالغ حينما نتوجس من قيام هذه الشبكة ـ التي أصطلح على تسميتها "عُصبة الإخوان" ـ بتدْيِين الدولة قسريًا، وصبغها بهُوية متشدِّدة تفرض قيودًا على الحريات العامة والشخصية، وهاهو زميلنا إسلام عفيفي رئيس تحرير صحيفة "الدستور" وقد حبس على ذمة محاكمته بتهمة إهانة الرئيس، كما أوقفت بث فضائية "الفراعين"، وتحديد جلسة لمحاكمة مالكها توفيق عكاشة المناوئ للإخوان، وأؤكد هنا أنني لست من المغرمين بطريقة عكاشة وربما لا تصدقني لو قلت إنني لم أشاهد هذه القناة، وأيضا لم أتشرف بمعرفة إسلام عفيفي، لكن أخشى ما أخشاه أن نكون مكانهما قريبا، كالمثل الشائع القائل: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
 
الفاشيون الجدد
يُدرك المراقب لتاريخ ومواقف وسلوك "الإخوان المسلمين" أن التيار القطبي هو الفصيل المتنفذ الآن في قرار الجماعة وترتيباتها، وهؤلاء يمكنك وصفهم بكل اطمئنان بـ"الفاشيين الجدد"، لأنهم لا يتورعون لحظة عن استخدام أي وسيلة في سياق صراعهم مع خصومهم السياسيين، إنهم حتى لا يرونهم "خصومًا" بل "أعداء"، معتمدين في ذلك على الشارع المصري المتديِّن بطبعه، سواء كان مسلما أو مسيحيا، فكلاهما متدين، ومن هنا من مصر انطلقت العقيدة، ودائما كانت مصر داخل أي "جملة مفيدة" في اليهودية والمسيحية والإسلام.. لهذا فقد صار تحالفنا نحن أنصار الدولة المدنية "فرض عين وواجب مقدس".. هكذا دون أدنى مبالغة في الوصف.
 
ولنا الحق أيضا أن نتوجس خيفة من التضييق على الحريات العامة والخاصة، بعد أن تمكنت "عصبة القطبيين" من الحكم. وسؤال الهوية الآن هو لمن ننحاز؟.. إلى العالم المتحضر الحر، ولدينا نماذج ديمقراطية ناجحة سواء في الغرب أو الشرق، لهذا يجب أن نسعى إلى "الكود الحضاري المتمدن"، بعد أن عشنا عقودًا منذ انقلاب 1952 في ظل الفساد والاستبداد والشمولية والحكم المطلق، ولا ينبغي أن نعيد إنتاجه تحت عباءة الدين.
 
الغضب الساطع
نهايته، يبدو لي كثيرًا أن ما يجري الآن في مصر هو "صراع عميق"، وليس مجرد منافسة سياسية، لأن الصِّراع يعني سعي الطرفين لإزاحة الآخر بكل الأدوات المتاحة، أما المنافسة الشريفة المتحضرة، فيسعى فيها  كل فصيل إلى الوصول إلى الحُكم، لكن من خلال أدوات مُتعارَف عليها في الديمقراطية، أي مناخ وطني يُعلي قيمة المواطنة على غيرها من الانتماءات أو المشارب، والمطلوب الآن هو تهذيب المنافسة التي تبدو شرسة.. فهناك من يتأهب لإقصاء الجميع، و"التكويش" على كافة مفاصل القرار والمزاج العام، وصولا إلى أبسط قواعد اللياقة في التعامل.. التي أمسى الاستعلاء والاستقواء من قبل "عصبة الإخوان" أبرز سماتهم في القول والفعل.
 
لهذا اغضبوا معنا يوم الرابع والعشرين من أغسطس.. اغضبوا حتى يمكنكم أن تبتسموا ذات يوم آتٍ.. لكن ذلك لن يحدث إلا بعد أن ندفع جميعًا "ضريبة الغضب".. لن نخشى السجون، ولن تثنينا كل حملات التشويه والتخويف، بل سنمضي بكل تحضر، والتزام صارم بالاحتجاج السلمي، وليس لنا من هدف سوى إيصال رسالة قصيرة تتكون من كلمتين: "نحن هنا"..
 
اغضب فأنت رائع حقاً حين تثور .. أغضب فلولا الموج ما تكونت بحور
اغضب.. كن عاصفاً .. كن ممطراً.. فإن قلبي دائماً غفور
وللمفارقة فالغضب هنا يمتزج بالبهجة وحب الحياة والوطن، فنحن مسالمون ولا نسعى لتصفية حسابات مع أحد، بل غاية ما نطالب به هو احترام معطيات الدولة المدنية غير المنقوصة، واحترام حقوق المواطنة كاملة.. واحترام المساواة بين المصريين النساء تماماً كالرجال، والمسيحيين تماماً كالمسلمين، والفقراء تماماً كالأغنياء، كما نطالب بعدل اجتماعي وحرية الاعتقاد والتعبير والإبداع.. فهل هذا كثير على مصر.. "أم الدنيا"؟
والله المستعان
Nabil@elaph.com