الأنبا إرميا
يحتفل المِصريون بـ«عيد السيدة العذراء» فى «الثانى والعشرين من أُغسطس» من كل سنة. وحين نتحدث عن «السيدة العذراء»، نتذكر تسبحتها الشهيرة: «تُعَظِّمُ نَفْسِى الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِى باللهِ مُخَلِّصِى، لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الْآنَ جَمِيعُ الْأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِى، لِأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِى عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ...»؛ ولذا فمحبة «السيدة العذراء» وتبجيلها وإكرامها رُسمت وانطبعت فى قلوب المِصريين جميعًا مسلمين ومسيحيين على مر الأجيال.
وقد سبق الاحتفال بـ«عيد السيدة العذراء» صومٌ مسمى باسمها، استمر خمسة عشر يومًا، له قصة ترتبط بنياحتها التى يُحتفل بها فى الحادى والعشرين من طوبة (الثلاثين من يناير)، إذ عند نياحتها لم يحضر مراسم دفنها التلميذ «توما الرسول»، بسبب تغيبه فى رحلة تبشيرية بـ«الهند»، وفيما هو عائد منها شاهد منظرًا عجيبًا: ملائكة حاملين جسد «السيدة العذراء» إلى السماء! فسارع بعد رجوعه وسأل التلاميذ عن «السيدة العذراء»، فأخبروه بنياحتها، فطلب أن يُروه قبرها، فلما ذهبوا به إليه وجدوا تابوتها فارغًا! فقصّ عليهم ما رآه.
فما كان من الرسل إلا أن قدموا صومًا لله، بدأ فى «الأول من مسرى» (السابع من أغسطس)، من أجل أن يسمح الله لهم بالتبرك برؤية جسد «السيدة العذراء» مرة أخرى، وظلوا صائمين إلى أن حقق الله لهم رغبتهم فى «السادس عشَر من مسرى» (الثانى والعشرين من أغسطس)، ولذا بات اليوم الذى أُعلن فيه إصعاد جسد «السيدة العذراء» إلى السماء عيدًا من أعيادها.
وحين نتأمل شخصية «السيدة العذراء»، يتجلى من بين سماتها الفائقة إيمان عظيم حملته فى قلبها، رفعها إلى مكانة عظيمة لم تحظَ بها ولن تنالها امرأة أخرى على مر الأزمان. فقد بُشرت «السيدة العذراء» بأمر إلٰهىّ فائق الطبيعة: أنها ستحبل وتلد دون أن تعرف رجلاً، بمعجزة خاصة من عند الله، حين قال لها الملاك المبشر: «لاَ تَخَافِى يَا مَرْيَمُ، لِأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى»؛ فسألته «السيدة العذراء»: «كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟»». فأجابها الملاك: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.». ففى خضوع تام لمشيئة الله، آمنت «السيدة العذراء» ببشارة الملاك، معبِّرة: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِى كَقَوْلِكَ.»؛ وقد أعلنت نسيبتها «أليصابات»، أم «يوحنا المَعمَدان»، هٰذا الإيمان حين خاطبتها: «طُوبَى لِلَّتِى آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ!»
وفى «القرآن»، سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ الْعَالَمِينَ﴾، وسورة التحريم: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾، وتذكر سورة مريم ظهور الملاك لها فيما كانت منفردة تصلى وتعبد الله: ﴿فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾؛ فاضطربت عندما رأته، فطمأنها أنه مرسَل من الله من أجل تبشيرها بولادتها للسيد المسيح: ﴿قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾، فآمنت بما قيل لها من قبل الله.
ولم يكن ذٰلك الإيمان مجرد لحظة خضوع وتسليم من «السيدة العذراء» وقت البشارة فحسب، بل ظل يملأ حياتها، حافظة جميع الأمور ومتفكرة بها فى قلبها، واثقة بعناية الله ورحمته ومحبته لجميع البشر. ولا عجب أن تصير للسيدة العذراء المكانة حتى إنها تتشفع لدى السيد المسيح وقت «عرس قانا الجليل» قبل أن يحين عمل معجزاته.
كل عام وجميعكم بخير. ونصلى إلى الله أن يرفع عن العالم كل مرض وألم ووباء، ويحفظ بلادنا الحبيبة «مِصر» فى أمن وسلام، بشفاعات «السيدة العذراء»، التى باركت وطننا الغالى بتَجوالها فى رُبوعه مع عائلتها المقدسة، فى زيارة لم يحظَ بها أىُّ بلد آخر! و... والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم