حلمي النمنم
استمع برنارد لويس خلال زيارته لمصر- سنة ٦٩- إلى كثير من الآراء النقدية الحادة بحق سياسات الدولة فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واستمع كذلك إلى انتقادات بحق الرئيس عبدالناصر شخصيًا، وكانت الانتقادات تُقال بصوت عالٍ، ولم يمثل ذلك مفاجأة كبيرة له، فقد كان متوقعًا ذلك بعد الهزيمة القاسية فى يونيو ٦٧، وقد حرص «لويس» كمؤرخ على الاستماع لكافة الفرقاء.. استمع جيدًا لمحبى عبدالناصر، الذين يساندونه على طول الخط ويطالبون بمساندته فى كل ما يقوم به.. يقول عنهم: «ليس لديهم سوى التأييد»، أى لا فكر ولا أيديولوجيا، أنصت جيدًا إلى أولئك المنزعجين من تطبيق الاشتراكية والتقارب مع الاتحاد السوفيتى ويتمنون تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد الغرب عمومًا. باختصار، التقى اليمين المصرى، فى المقابل جلس مع «الماركسيين»، من يحتجون على «الاشتراكية العربية» ويطالبون بالاشتراكية كما هى مطبقة فى موسكو، وإذا كان عبدالناصر تقارب كثيرًا مع السوفييت، فلماذا لا يأخذ باشتراكيتهم ويقوم بتأميم كل شىء مرة أخرى؟.. لا مفاجأة لديه فى كل هذه الآراء والأفكار، بل إنه يراهن عليهم ويقول إن أحد هذه الاتجاهات سوف يكون لديه فرصة الإمساك بالسلطة بعد «سقوط عبدالناصر».. استعمل تعبير «سقوط» ولم يستعمل كلمة أخرى مثل «رحيل» أو «وفاة» وغيرهما.
الذى أثار استغراب واندهاش المؤرخ البريطانى ورجل المخابرات العتيد أمران استمع إليهما: الأول يتعلق بالنكتة السياسية.. والثانى عبارة استمع إليها من أحد أقطاب جماعة الإخوان، التى أبدى فى دراسته تلك تعاطفًا معها.
ثابت فى وعيه أن النكتة السياسية عمومًا تنتشر فى المجتمعات والأنظمة الشمولية، وبمعنى أدق الاستبدادية.. وهكذا كان يصنف نظام عبدالناصر، وسبق له أن تابع مثل هذه النكات فى إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، لكن فى حالتى الفاشية والنازية كانت النكتة تتركز على الزعيم أو رأس النظام، أى موسولينى فى إيطاليا وأدولف هتلر فى ألمانيا.. فى القاهرة كانت النكتة السياسية تتجنب عبدالناصر غالبًا وتتركز على مصر والمصريين، تتهمهم بالفشل. يقول هو إن النكتة «ضد الأمة المصرية ذاتها»، ذكر أيضًا أنها «مصحوبة برفض عدمى تقريبًا للأمة المصرية باعتبارها عاجزة عن القيام بأى شىء»؛ هذا الموقف العدمى أو الرافض والكاره للمصرية كان بارزًا بقوة بعد ٦٧، بالتأكيد تحت وطأة الهزيمة، التعبير الذى قاله البعض وقتها «أقدم أقدم يا ديان».. كان نتاج تلك الروح، لكن هناك إلى اليوم من يعادون ويكرهون الروح الوطنية المصرية، لأسباب فكرية ومواقف سياسية، هناك دعاة الأسلمة السياسية، الذين يتفننون فى تحقير كل ما هو مصرى والسخرية من كل ما هو مصرى والتنديد به، من بناء الهرم الأكبر حتى أم كلثوم ونجيب محفوظ وطه حسين. العبارة البذيئة التى تفوّه بها عجوز خرف ذات يوم: «طظ فى مصر» مازالت تدوى فى الأذن إلى يومنا هذا؛ هناك كذلك بعض القوميين المتطرفين، أولئك الذين يتصورون الروح الوطنية عمومًا، والمصرية تحديدًا، عقبة أمام القومية العربية، وكذلك بعض الكارهين لمصر لأسباب ذاتية أو ارتزاقية لصالح الكارهين لمصر، سواء كانوا مصريين أو غير مصريين.. معظم هؤلاء الآن ينتشرون فى بعض المواقع الإلكترونية والفضائيات، يشنون ما سميته من قبل «حربًا ناعمة» ضد مصر والمصريين، أسماؤهم معروفة.
وهناك أولئك الممتعضون دائمًا وأبدًا، «القرفانين» لمدة ٢٥ ساعة كل يوم، فإذا ضُبطت قضية فساد، يكون تعليقهم: «كلها فساد.. وهكذا». والحق أن هؤلاء عمليًا، سواء قصدوا أم لم يقصدوا، يمنحون مشروعية للفساد والترهل والاستبداد، شعارهم أنها كذلك منذ الأزل وإلى يوم الدين، وأنه لا جدوى من أى شىء ولا أمل فى أى أمر، هؤلاء بيننا إلى اليوم.
بعض الذين سخروا من عبارة «تحيا مصر» لم يكونوا كلهم يعبرون عن امتعاض سياسى، بل عن موقف نفسى عميق لا يؤمن بالأمة والوطنية المصرية، يمكن أن نضيف إليهم أولئك الذين راحوا يستظرفون بالسخرية من مقولة الزعيم الوطنى مصطفى كامل: «لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا»، التى رفعها فى وجه لورد كرومر وبريطانيا العظمى حين كانت إمبراطورية «لا تغيب عنها الشمس».
لاحظ برنارد لويس أن جماعة الإخوان ليس لديها تمثيل فى النخبة الحاكمة، بينما الأطياف الأخرى موجودة، كان هناك بعض الماركسيين منذ المصالحة الشهيرة سنة ١٩٦٤ بين اليسار والنظام، وكان هناك كذلك بعض الليبراليين أو من يمكن اعتبارهم كذلك، غير أن الإخوان لم يكونوا مبعدين إلى هذه الدرجة، كان هناك بعضهم اختلفوا مع المرشد حسن الهضيبى، فذهبوا إلى أجهزة الدولة على قاعدة «عدو عدوى صديقى»، خرجوا عن قيادة الجماعة ومكتب الإرشاد، لكن لم يغادروا الفكرة نفسها، الأسماء عديدة مثل د. عبدالعزيز كامل، والشيخ سيد سابق، والشيخ محمد الغزالى... وغيرهم.
عمومًا، هذه كلها تفصيلات تتعلق بالرأى، لكن يقدم برنارد لويس نبوءة تتعلق بالجماعة، وبالأحرى توقعًا خاصًا يقول: «لن تحين فرصتهم إلا فى حال تحطم النظام تمامًا»، وهو احتمال مستبعد فى الوقت الحاضر، ويذهب كذلك إلى أنهم يحظون «بتأييد واسع فى البلاد».. على أى أساس بنى استنتاجه؟ إنه لا يقدم تفاصيل.. بعده بسنوات سوف يقول هنرى كسنجر شيئًا مشابهًا للرئيس السادات فى أول لقاء بينهما فى مصر، عمومًا هذا أيضًا يدخل فى باب الرأى والتحليل السياسى، لكنه ينطلق بعد ذلك ليقول نصًا، صفحة ٥١٧ من الترجمة العربية التى قام بها الراحل طلعت الشايب: (لقد قال لى ذات يوم أحد الشخصيات البارزة فى مكتب إرشاد الجماعة «أتمنى أن يدخل الإسرائيليون القاهرة بالفعل، فإن ذلك سيجعل مهمتنا أسهل كثيرًا»).
يعلق برنارد لويس على ما سمعه بالقول: «أنا أستطيع أن أفهم منطق هذا الرأى الغريب».
لكننا نحن لا نستطيع أن نفهم ولا أن نتقبل هذا المنطق الذى يراه هو.. نعم، هم يكرهون عبدالناصر ونظامه، وحاولوا اغتياله أكثر من مرة، لكن كراهية النظام لا تعنى ولا تدفع الكاره إلى أن يتمنى أن يحتل الإسرائيليون القاهرة، عاصمة مصر.. قائل هذه العبارة عضو بارز وليس عضوًا عاديًا فى مكتب الإرشاد، هو أيضًا عضو بمكتب الإرشاد وليس مجرد صبى أو غلام وليس عضوًا عاديًا أو خاملًا كى أقول مجرد نكرة بالجماعة.
برنارد لويس مؤرخ مدقق، ضابط سابق فى المخابرات العسكرية البريطانية، يزن الكلمات جيدًا، يدقق فيما يستمع إليه ويتذكر جيدًا، هو أيضًا على معرفة قديمة وعميقة بالجماعة، بدأ التعاون المخابراتى «الرسمى» بين الجماعة والسفارة البريطانية فى فترة عمله فى القاهرة.
الرجل اختلف معه كثيرون فى الرأى، سواء حين كان بريطانيًا أو بعد أن صار أمريكيًا، وأثارت بعض كتبه انتقادات واعتراضات حادة داخل بريطانيا والولايات المتحدة.
إدوارد سعيد وجَّه إليه ملاحظات موجعة فى كتابه «الاستشراق»، لكن لم يرمه أحد بالكذب فيما يرويه أو ينقله.
وصف «لويس» رأى عضو مكتب الإرشاد البارز بأنه «غريب»، لكن عندنا نحن هو ليس بالغريب، يمكن لإنسان أن يرفض أو يكره الروح الوطنية لحساب تصور إنسانى مطلق أو تأثرًا بالنزعة العالمية أو إيمانًا بفكرة أممية، لكن ليس معنى هذا أن يعادى وطنًا بعينه ُيفترض أنه وطنه.. ناهيك عن أن يتمنى سقوط هذا الوطن تحت احتلال دولة معادية، كذلك يمكن لتيار سياسى أو فكرى أن يبعد فى حقبة ما، يمكن كذلك لبعض الشخصيات أن تستشعر غبنًا سياسيًا وتاريخيًا فى مرحلة بعينها- حدث ذلك مع مصطفى النحاس وإبراهيم عبدالهادى بعد ثورة يوليو- لكن ما نعرفه أنهم جميعًا كانوا يتمنون النهوض لمصر، شهدى عطية الشافعى قُتل تحت التعذيب، ولكن لم يلعن اليسار مصر، ولا حلموا بدخول الإسرائيليين القاهرة.. والحق أن جماعة حسن البنا تحمل كراهية عميقة.. عميقة لمصر تاريخًا وحضارة، بل وجودًا كذلك.. أمامنا ما كتبه سيد قطب فى كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية» تحقير لمعنى الوطن، ثم ما ذكره هو بنفسه لنجيب محفوظ سنة ٦٤، إنه يقبل الانضمام لجيش باكستان ويدافع عنها ويرفض الدفاع عن سيناء.. المواقف كثيرة والكلمات عديدة، ليست بالنسبة لسيد قطب وحده، ولكن لآخرين غيره من قيادات الجماعة، بعضهم يزعمون أن قطب حالة خاصة أو شاذة لا يمثلهم. فى هذه القضية بالذات معظمهم كذلك. حتى يومنا هذا، أعلن بعضهم منذ شهور أنهم يودون التنسيق مع إثيوبيا فى مسألة السد لإسقاط النظام فى مصر، وقد تابعنا نحن هتافات الجماعة بعد صلاة عيد الفطر المبارك سنة ٢٠١٣: «واحد اتنين.. الأسطول السادس فين».
كانت أمنية عضو مكتب الإرشاد أن تحتل إسرائيل القاهرة مدخلًا كى ينطلق برنارد لويس للحديث عن السلام بين مصر وإسرائيل.
نقلا عن المصري اليوم