خالد منتصر
عندما نزع الجرَّاح الماهر عدسة عينى المكدودة المنهكة التى أصابها ضباب الزمن وأعتمتها معارك الحياة، وألقى بشظاياها جانباً لتسكن الجديدة الشابة الشفافة كبسولتها وتتشرنق حتى يحين الأجل وتذوب مع الرفات أو يبيعها حارس المقبرة فى مقابل سيجارة حشيش أو لحظة شبق، سألته هل هناك بعد علاج شفافية العين، علاج لشفافية الروح؟ حاولت أن أقتنصها، أُحوّل فُتاتها إلى كيان، وأكثّف بخارها إلى نور، رافضاً أن أشيّعها إلى مثواها الأخير برغم أنها كانت سداً بينى وبين الآخرين، حاولوا إقناعى بأنها كانت مجرد ممر للصور، لكن الفيلم الحساس الذى يستقبل تلك الصور هو الشبكية، وما زالت بخير، لكن تلك الصور التى مرت فى تلك العدسة هى ذكرياتى، هى حياتى، قبل أن تسكن العدسة سجل الماضى وتصبح هى الأخرى مجرد ذكرى، سلمتنى الشريط، كانت هى أول من قاوم بحر الرحم وحاول رؤية تفاصيل حجرة الولادة من خلف ضباب السائل الأمنيوسى، ولدت فى ضباب وماتت فى ضباب.
ذكرتنى العدسة بحجرة عمليات أخرى فى معهد القلب، عندما خرجت أمى من جراحة الصمام الميترالى بجلطة، كانت من ضمن الأوائل فى مصر الذين يجرى لهم الجرَّاح العائد من أمريكا تلك العملية الدقيقة الخطيرة وقتها، العدسة غسلتها الدموع يوم رحيلها وهى ما زالت فى السادسة والعشرين من عمرها، ساعة أبى «الجوفيال» وأنا أفككها فى الخفاء لقتل فضولى وفك شفرة السر داخلها، غلاف مجلة المعرفة والطفل يلتقطها من عم أحمد بائع الجرائد فى العجوزة، يلتهمها بشغف مع وجبة المغامرين الخمسة، غيطان قرية «الشعراء» ومعمل الجبنة ونقوش مايكل أنجلو الأويمجى المختلطة برائحة «الجومالكه»، مر من العدسة خيط دم من عنق أبى عندما صرخ فرحاً وهو يحلق ذقنه، داهمه صوت أحمد سعيد معلناً إسقاط ثلاثين طائرة واقتحام تل أبيب، وخيط دم آخر، دم سبابة توفيق مرؤوس الأب فى مصلحة الطب الشرعى وهو يكتب به رفض تنحى عبدالناصر، ملامح أول فتاة عانقت أصابعه المرتعشة أناملها الخجولة، قبضة بلطجية الجماعة وهى تحاول تحطيم جيتار فرقة الموسيقى الوليدة، مجلة الحائط وهى تتمزق ثم تلقى فى سلة القمامة بجوار مدرج كلية الطب، سماء العرض العسكرى وصوت طلقات الرصاص من خلال شاشة التليفزيون فى احتفالات نصر أكتوبر، الدماء تغطى بدلة السادات العسكرية الأنيقة، فرج فودة يسقط صريعاً أمام مكتبه، ومحجره المتسع الثابت يعاتبنا ويعرينا، تركتمونى وحيداً أواجههم بصدرى العارى، اسمى على غلاف «صباح الخير» ونبوءة القديس لويس جريس بأن رائحة حبر المطبعة ستتغلب على رائحة ديتول العيادة، توقيعى المتردد على عقد العمل فى الخليج الذى انتهى بتمزيقه واحتضان رفيقة رحلة الحياة التى شجعتنى على الرفض ومواجهة الواقع لا الهروب منه، ضحكة «عمر» وهو يستقبل حضن أمه، ومعافرة «على» للهروب من مصيدة المشيمة التى حوّلت الرحم إلى زنزانة، حفلات زفاف ومراسم وداع، شجرة أصدقاء الطفولة والمدرسة والجامعة تتساقط أوراقها وتتعرى غصونها، أخبرتنى العدسة وهى تعاند الرحيل، تهشمت وتهمشت، وتهمشت معها الذكريات، أنينها وهى تتناثر أشلاء تحت صدمات الموجات، كان رجع الصدى، أغلقت حقيبة الذكريات على كتلة فراغ، اتضح الإبصار، فهل ستتضح البصيرة؟.
نقلا عن الوطن