عبد المنعم سعيد
القصة الكبرى فى السياسة الدولية والإقليمية خلال الأسبوعين الأخيرين كانت قصة «الخروج الأمريكى» من أفغانستان؛ و«عودة طالبان» إلى العاصمة الأفغانية كابول. وفى القصة كان هناك الكثير من العجب بالنسبة للأمريكيين، وما لا يقل عن العجب بالنسبة لأهل أفغانستان وبقية العالم. العجب من الأمريكيين كان واضحا، فالمؤكد أن القيادة الأمريكية كانت قد فقدت إرادتها سواء كان ذلك فى العصر الحالى لبايدن أو حتى لمن سبقه فى إدارتى أوباما (حيث كان بايدن نائبا للرئيس)، وترامب.
فى كلتا الإدارتين جرى ما حدث حتى فى إدارة سابقة لجورج بوش الابن عندما كانت الأوراق كلها تقول بعبث تجربة الحرب فى بلاد بعيدة، والتى كانت فى كل الحالات (بوش وأوباما وترامب وبايدن) تقع فى العراق وأفغانستان. ما حدث فى كل مرة ما عدا الفترة الأخيرة كان التوافق بين العسكريين والقيادات الاستراتيجية كلها داخل الحكم وخارجه، أن الولايات المتحدة غير قادرة على تحقيق النصر، وأن التكلفة باهظة تتجاوز تريليونات من الدولارات اقتصاديا، وآلافا من الضحايا والجرحى لهم أثمان إنسانية وسياسية لا تقدر بمال.
بعد التوافق يبدأ العسكريون عادة فى مراجعة الأمر، ويرفعون من الثمن السياسى والأخلاقى وخسارة السمعة الأمريكية وقت الانسحاب وما يسببه ذلك من ضعف للردع الأمريكى. ينتهى الأمر دائما إلى حل وسط يقوم على استخدام القوة العسكرية بكثافة سماها الجنرال «باتريوس» التصعيد أو The Surge، والذى يعنى تكثيفا نيرانيا شديدا مصاحَبا بعمليات بناء للدولة، وتقديم إغراءات لجذب قوى معادية للخصوم. ولما كان هؤلاء الخصوم لم يكونوا من الجيوش المنظمة، فإن تصنيفهم كان أقرب للتنظيمات الإرهابية، أو الفاعلين من غير الدولة، أو الجماعات المتطرفة باختصار. وفى العادة فإن التصعيد كان ينتهى إلى تحقيق نجاح مؤقت.
.. وتتراجع عمليات العنف، لكن الزمن الطويل ينتهى بفقدان الولايات المتحدة القدرة على الصبر. الرئيس بايدن حاول الخروج من هذه الحلقة الجهنمية بقرار راديكالى، هو الخروج من البلدين بدون قيد أو شرط.
ما كان يحتاجه بايدن هو قدر من الوقت، وفى تصوراته أنه كان لديه كل ما يحتاج إليه من هذه السلعة النادرة، وفى الخيال الأول أن الولايات المتحدة قد نجحت بالفعل فى بناء الدولة الأفغانية على أسس حديثة. وعندما قضى الأمريكيون عشرين عاما فى الدولة، فإنهم قاموا بعملية تحديث واسعة النطاق أدت إلى زيادة التعليم وإدخال النساء إلى سوق العمل (٣٠٪ من جهاز الدولة من النساء)، وبدأت ملامح الاقتصاد الحديث فى الظهور.
وعندما بدأ حديث الانسحاب الأمريكى فإن «واشنطن بوست» نشرت مقالا تستبعد فيه قبول النساء والنخبة الأفغانية المتعلمة وأنصار الاقتصاد الحديث وحتى الدول المجاورة بعودة طالبان مرة أخرى. لم تكن الحرب قد انتهت، ولكن لهيبها كان قد تراجع، وفى مقال لكاتب السطور نشر فى الشرق الأوسط الغراء فى ١٢ ديسمبر ٢٠١٨ كتبت عن «الحرب المنسية» فى أفغانستان، وما تسببه من ضحايا، ولكن لم يكن هناك لمحة تشير إلى أن الحرب كلها سوف تنتهى إلى انتصار طالبان، وإلى خروج الولايات المتحدة.
فى واشنطن كان التفاؤل كبيرا، ومع قرار الانسحاب ذكر الرئيس بايدن أنه لا يتوقع أن يحدث فى أفغانستان ما حدث من قبل فى فيتنام. ومع بدء عملية الانسحاب ظهرت بوادر الإقدام على طالبان، وبدأت فى تحرير مناطق بسرعة كبيرة نتيجة استسلام قوات الجيش الأفغانى البالغ ٣٥٠ ألف مقاتل مسلحين تسليحا حديثا فى مقابل ٧٥ ألفا يمثلون القدرة العسكرية لطالبان. ومع ذلك فإن تقديرات العسكريين الأمريكيين رغم بداية شكها فى صمود الجيش الأفغانى فإنها رأت أن الانهيار إذا حدث فسوف يكون خلال ١٢ شهرا.
ومع ذلك استمرت طالبان فى التقدم، واستولت على قاعدة «بجرام» الجوية العسكرية، ومعها مدن كبيرة مثل جلال آباد ومزار الشريف، وسرعان ما جرت الانتصارات الكبرى، وخلال ١١ يوما دخلت طالبان إلى كابول فى يوم ١٥ أغسطس الجارى. لم يكن الأمر يحتاج أكثر من فرار الجيش، والتفاوض مع القيادات المحلية، للاستسلام بشكل سلس. بايدن كان عليه مواجهة عاصفة كبيرة، أما طالبان فبات عليها أن تواجه واقعا جديدا عليها، وهو أن تعود إلى السلطة مرة أخرى، وعليها أن تخطط ألا تخرج منها مرة ثانية.
والحقيقة أن طالبان ممثلة للوجه الآخر للعملة الأفغانية لن يمكنها إلا أن تواجه حقائق صعبة، فى بلد ظل فى حالة حرب مستمرة خلال نصف قرن مرت فيه على أفغانستان أنواع مختلفة من الحروب، تبدلت فيها الأطراف طوال الوقت داخليا وخارجيا. والمعروف أن أفغانستان دولة حبيسة وفقيرة ولا يوجد لديها موارد كثيرة، وعندما خرج الأمريكيون ودخلت طالبان، فإن ٨٠٪ من الموازنة الأفغانية كانت آتية من المنح والمعونات. وليس معلوما حتى الآن سكيف ستكون الحالة الأفغانية بعد هروب الكثير من القيادات السياسية والعسكرية بمن فيهم محافظ البنك المركزى.
وفى العموم فإن الجلاء الأمريكى وترك أفغانستان فى حالتها الراهنة بين يدى طالبان لا يعطيها أكثر من حالة دولة بائسة. العالم إزاء هذه الحالة لن يملك الكثير من الإشفاق خاصة إذا ما باتت طالبان لا تملك كثيرا من تغيير تقاليدها القديمة. فبعد أن استولت طالبان على كابول فى عام ١٩٩٦، وضعت المنظمة قواعد صارمة. كان على النساء ارتداء أغطية من الرأس إلى أخمص القدمين، ولم يُسمح لهن بالدراسة أو العمل ومُنعن من السفر بمفردهن. كما تم حظر التليفزيون والموسيقى والأعياد غير الإسلامية. وفى الوقت الراهن فإن طالبان تريد طمأنة الأفغان وهى تطالبهم بالعودة إلى العمل، ولكن شروط ذلك وحدوده رهن بالشريعة الإسلامية ذات الخصائص الطلبانية.
السؤال هو هل تملك طالبان قدرة الخروج ليس فقط على ولاءات أعضائها الذين يرون أن النصر أتى بسبب التشدد فى القواعد الدينية، وإنما على ولاءات المناصرين والفرحين بها من تنظيمات إرهابية مثل القاعدة وداعش وأشكال مختلفة من «النصرة» الإيرانية التى أقامت معسكرات للاجئين الأفغان على حدودها، وبينما تهنئ طالبان فإنها تنشر قواعدها السياسية وربما العسكرية فى الغرب الأفغانى؟.
والحقيقة أيضا أنه لا يمكن فى هذه المرحلة المبكرة من المفاجأة الأمريكية الأفغانية تصور ما يمكن أن تسير إليه الأمور، ليس فقط للحالة الغامضة لقيادات طالبان وهى تعيش «خضة» نصر لم تكن تتخيله ممكنا، وإنما لأن المتغيرات الأخرى فى إقليم متسع من حدود الصين إلى المحيط الأطلنطى، كلها فى حالة اضطراب كبير. الدول الغربية من شارك فيها فى الحرب الغربية أو لم يشارك، تعيش حالة من الانسحاب الكبير الذى يعود إلى القلاع الداخلية من أجل التعامل مع التدفق المنتظر للاجئين.
الصين وروسيا تحركتا فى اتجاه إقامة جسور مبكرة، وكذلك فعلت إيران بينما تبحث عما إذا كان ممكنا أن تكون طالبان جزءا من حلف للتطرف الإقليمى أم لا. القضية بالنسبة للإقليم تحتاج قدرا من البحث مع الانتظار، وبعضا من التشاور ووحدة الصفوف؛ لأن الجماعات الإرهابية التى تقاوم التحديث والبناء والتقدم أخذت من تجربة أفغانستان كل ما هو يضر.
نقلا عن المصرى اليوم