عاطف بشاي
«أعوام نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات» هو أحدث كتاب يتناول السيرة الذاتية والأدبية لكاتبنا الكبير «نجيب محفوظ».. نشأته وطفولته وبدايته فى عالم الكتابة.. علاقته بالأدباء من معاصريه.. تأثره الشديد بطه حسين.. والمنفلوطى.. أسلوبه فى فن الرواية والقصة القصيرة عبر تاريخه الثرى بالإبداعات المدهشة منذ بدايته فى روايته التاريخية «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة».. حتى نهاية الرحلة التى تشمل «أحلام فترة النقاهة» و«الأحلام الأخيرة».. الكتاب للناقد والصحفى والباحث القدير «محمد شعير» الذى حصل على جائزة «ساويرس» فى النقد الأدبى، ووصل إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد.

والذى يتميز بإطلالة جديدة ومتفردة لعالم «نجيب محفوظ» فى مزج شائق ومثير للتأمل.. وربط عميق وغنى بالوثائق والاكتشافات المبهرة بين حياة الأديب الخاصة.. وبين إبداعاته.. وقد استعرض «شعير» هذه الآراء وألقى الضوء عليها بالتحليل والدراسة بموضوعية لافتة وحبكة تكشف عن تهافت وقصور الكثير منها دون أن يتورط فى اتهامات مباشرة بخطأ تلك التقييمات.. أول تلك الاكتشافات المبهرة للباحث الطموح الدؤوب «محمد شعير» عثور على نص طويل كتبه «نجيب محفوظ» عام 1929 بعنوان «الأعوام» وقال عنه إنه روى فيه قصة حياته على طريقة طه حسين فى «الأيام» مقلداً إياه بنفس أسلوبه.. ويعتبر هو أول من استلهم «أيام طه حسين» ولم يكن قد تجاوز وقتها الثامنة عشرة من عمره.

وكان تأثره «بالأيام» يكمن فيما يمكن استنتاجه بسرد «د. طه حسين» الذى يعتمد على الوضوح والبساطة والذى تخلص فيه من الزخرفة اللفظية والتركيبات اللغوية المعقدة والموشاة المحسنات البديعية.. وهو ما دعا إليه «طه حسين» فى كتابه الأيقونة «مستقبل الثقافة فى مصر» إلى الإصلاح التعليمى فى المناهج وطرق التدريس.. ودستوره فى ذلك أن يقرأ الناس ليفهموا لا أن يفهموا ليقرأوا.. فيكون الغرض من الكتابة الإبانة والتجلية.. لا الألغاز والتعمية.. ليصبح الهدف التصوير الصادق واليسر والسهولة فى التعبير.. ويرى فى ذلك «نجيب محفوظ» – كما أورد «شعير» فى كتابه – أن ثورة «طه حسين» ضد المناهج القديمة هى انتفاضة عقلية موازية للثورة الحقيقية التى فجرها «سعد زغلول» على أرض الواقع.

ويقول «نجيب محفوظ» عن أسلوب «طه حسين» إنه يتميز بالبساطة والسخرية وموقفه ضد الغموض والتعقيد حيث لا نعثر فى كتاباته على كلمة شاذة أو تعبير ملتو أو فكرة غامضة وإنما نفهم كل ما يريد أن يفهمك وكأنها دلالة على الذكاء النافذ.. أما السخرية فهى تتبدى فى جمع للمتناقضات عن طريق الإشارة الخفية واللمحة البعيدة وقوامها قوة الملاحظة والانتباه الشديدان.. يطرح «شعير» فى كتابه أطروفة اللقاء الأول بين «نجيب محفوظ» و«طه حسين» وكان ذلك عند اختبارات دخول نجيب الجامعة.. حيث سأله العميد «طه حسين» لماذا تريد أن تدرس الفلسفة.. فيجيبه محفوظ: لأننى أريد معرفة الكون وأسرار الوجود.. فيضحك طه حسين ويقول له: أنت جدير بالفلسفة فعلاً.. لأنك تقول كلاماً غير مفهوم.. وفى الجامعة لم يتتلمذ «محفوظ» بشكل مباشر على يد العميد.. ولكنه يواظب على حضور محاضراته فى قسم اللغة العربية.

وكان من أهم ما جذب «نجيب محفوظ» إلى حضور هذه المحاضرات هى طريقة التدريس التى كان يتبعها «طه حسين» والتى لا تعتمد على الحفظ والتلقين ولكن على البحث والدراسة والتنقيب والاستقصاء والاستنباط والاستنتاج والتدرب على إبداء الرأى ووجهة نظر الطالب فى الموضوع المطروح والفهم الواعى لمغزى الدرس ومضمونه والتعبير عن محتوى ما فهمه الطالب والإجابة عن الأسئلة بأسلوبه الخاص.. وكانت وصيته للطلاب «اكتبوا المحاضرات بما استوعبته عقولكم.. ولديكم المراجع فى مكتبة الجامعة».

ومن الواضح أن التأثير الكبير الذى حققه طه حسين فى نفس نجيب محفوظ وفى نفوس طلابه وسعادتهم بطريقة تدريسه والتى تتناقض تماماً بما كان متبعاً فى الجامعة وبما عاناه «طه حسين» نفسه فى تعليمه الأزهرى السابق الذى لا يعترف إلا بالصم واجترار المعلومات كما هى مقررة وكتابتها فى ورق الأجوبة.ظهر هذا التأثير المخالف «لطه حسين» حينما صدر قرار إخراجه من الجامعة والذى اعتبره الطلاب قراراً كارثياً.. فقاموا بإضراب فى كلية الآداب بالمشاركة مع بقية الكليات والمدارس العليا... المدهش فى الأمر أن هذا التوجه الذى تبناه «طه حسين» – والذى كان من شأنه أن يحدث ثورة تصحيح عظيمة الشأن فى تطوير التعليم ونهضته وآثاره الإيجابية – ذهبت أدراج الرياح منذ ذلك الزمن البعيد وحتى زماننا المعاصر.. «زمن التابلت».. وما أدراك ما «التابلت».

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم