مفيد فوزي
دار حوار تليفزيونى بينى وبين الكاتب الناقد النابه طارق الشناوى، حول سطور كتبتها فى «المصرى اليوم».. راقت له، من أهم ما قاله «إننا نكتب عن فن الإخراج السينمائى وعن المسرح وعن فن الغناء وعن فن التلحين، لكن نادرًا ما نكتب عن فن الكتابة» ودون أن يدرى- العزيز طارق- التقطت الفكرة وقررت أن أضع تصورى لقارئ فهمان عن فن الكتابة.
-١-
الكتابة ليست صف حروف تتعانق وتتشابك، ولكنها «نية مبيتة» فى ذهن كاتب يعبر عنها بكلمات، ومن المهم أن تصل إلى عقله والأجدر أن تلامس وعيه. الكاتب- كما قال لنا أنيس منصور- هو قارئ واعٍ تتحول الكلمات عنده إلى مصابيح للتنوير، وهذا ما يميز كاتبًا عن آخر، مثلًا، امتاز أحمد رجب بالعبارة القصيرة الساخرة، ومن شباب العصر الذين دخلوا منطقة العبارة الساخرة: رامى جلال وحنان مفيد فوزى. ولكل كاتب إيقاع وكنت أسمع لأول مرة عبارة «الجرس الموسيقى» يصف بها كامل الشناوى «أبوالمكتشفين العظام» كلامًا قلته فى حضرته، وفيما بعد وصف هيكل أسلوبى بأنه «المتدفق فى كل اتجاه»، ولما سألته الإيضاح أكثر قال «أنت المحاور صوتًا وصورة وحرفًا»!. والكاتب- أى كاتب- له أسلوب، له سمات، فمصطفى أمين كان يهمه «الوصول إلى عمق فكره دون مشقة»، وأنيس منصور كانت تساؤلاته الفلسفية تغلب على أسلوبه، وأحمد بهاء الدين كنت «تشتم» الجدية فيما يكتب فهو جاد بكثافة، ويهمه أن يصل للنخبة فى مصر ومتخذى القرار!، كانت «أمينة السعيد» كاتبة جادة حتى عندما ترأست مجلة حواء كان يرضيها الجدية فى المرأة ويؤرقها ضحالتها وعزوفها عن القراءة. وكان محمود أمين العالم كاتبًا تحكمه «الأيديولوجيا»، وكان أتباعه يؤمنون بما يقول لأنه يكتب من خلال منظور أيديولوجى. وامتاز الكاتب موسى صبرى بالسرعة فى «تغطية الخبر» ولم يكن يهمه «جماليات» الأسلوب، وهو من مدرسة مصطفى أمين، العنوان المثير والأسلوب البسيط المفهوم من العامة وأنصاف المتعلمين!.
-٢-
لا يمكن أن أغفل مقال الكاتبة سناء البيسى، وهو المقال المستطرد على حد تعبير هيكل.. ومقالاتها بستان من المعلومات وفواكه اللغة والمحسنات البديعية، وهو لا يخلو من البحث التاريخى وربما الفلسفى، ولكنه مقال «بنفَس طويل»، وعندما ظهرت التغريدة كما أوصانا المفكر سلامة موسى حيث قال «أقل الكلمات تفى بالمعنى المطلوب»، وأضاف: «ففى المستقبل لن تملكوا رفاهية الوقت»، لكن سناء البيسى مازالت تكتب لعشاق أسلوبها المستطرد، كما تعودت، نعم جيل سناء البيسى اعتاد على أسلوب سناء، ورغم عدد أعمدته فى الأهرام يشعرون بالعطش ويريدون أكثر، فقارئ سناء لا تشغله ضروريات الحياة وربما يقرأ كلماتها من «بنوار الزمن»!.
وياسر رزق أيضًا يكتب المقال المستطرد لكن فى قضايا بلد، وأملك أن أقول إنه يعبر عن رجل الشارع بحرفية السنين التى قضاها كاتبًا، وقد تفرغ ياسر للكتابة وتخلى عن مهام الإدارة فى أخبار اليوم، ربما لتتضح الرؤية ويكتب بصفاء ذهنى وضمير مصرى.
وفى جيلى، حدث أن انتقد الناقد الكبير د. لويس عوض الكاتب القصاص يوسف إدريس، حيث كتب يقول «إن يوسف إدريس فى لحظات جدب القريحة القصصية يكتب المقال!»، وانتفض يوسف إدريس ورَدَّ على الناقد لويس عوض: «أنا قائمقام الكلمة»، ولا أدرى لماذا اختار إدريس رتبة عسكرية لنفسه، ككاتب، ولكن لا تبحث عن «دوافع» فنان كلمة للتعبير عن نفسه!.
ويوسف إدريس كان- كما يصف نفسه- يعبر بالمقال عن روحه الثائرة، فى حين تعبر القصص عن مكنون القصاص الداخلية.. وكان يوسف إدريس قد زار مجاويش فى قلب الدلتا وأُعجب بها فكتب مقالًا بعنوان «تمجوشوا يا عرب»!، وكان للمقال رِدّة فعل قوية!.
-٣-
الكاتب طعم ومذاق وشخصية، فمثلما يعرف طارق الشناوى النابه كناقد أسرار النجوم، يكتب عن جماليات عمل فنى وعناصر إبهاره، ويظل الكاتب المحترم صبرى غنيم منحازًا للناس بمشاكلهم وأوجاعهم ولا يمل مطلقًا من الإلحاح على مشكلة تخص الناس وتحتاج لتدخل المسؤول، وجلال دويدار فى جيل الأوائل، لا يزال مخلصًا للصحافة اليومية ويتناول المشاكل العامة بروح المسؤولية، هكذا يفصل جيل حمدى رزق الذى يلمع فى أسلوبه العربى الفصيح التراث والعصرية ويشترك مع سليمان جودة وخطه الأحمر فى شيل الهموم المصرية والعربية بمواظبة شديدة وتأن بالغ وجملة سهلة ومضمون يفصح عن نفسه، وأظن أنها «أدبيات» العمود الصحفى. إن عمود صلاح منتصر كله معلومات، وكذلك أطلق عليه «العمود المعلومة» وجماله فى التعطش لمعلومات أكثر. وفاروق جويدة صاحب عمود «إنسانى» وشاعرى ورومانسى، وعندما يتصدى للشأن العام يتخلى عن رومانسيته، ويبدو ذلك جليًا فى «خواطره الحرة». ولا أكتم فرحى عندما يكتب صلاح منتصر الذى تحرمنا من عموده أوجاع قلبه!. المواظبة صفة محترمة عندما يكتب كاتب صباح كل نهار ومطلوب منه فكرة جديدة ورؤية جديدة مثلما يفعل عبدالمحسن سلامة فى عموده اليومى الدسم، والمواظبة صفة من صفات الكاتب محمد أمين، يثير دائمًا فضولى لأعرف الموضوع الذى اختاره للكتابة، وربما غرد وحده بعيدًا عن السرب، أما عماد أديب فقلمه حنّكته التجارب والأيام، إنه قلم مجرب عاقل ومتزن كشخصيته.
-٤-
وكان للأستاذ هيكل مقولة يرددها بين أصدقائه، سمعتها لأول مرة فى بيت الدكتور ميلاد حنا وتتعلق بفن الكتابة. كان يقول إن «العمود الصحفى» هو خلاصة تجربة كاتب، وكلنا فوجئنا لاعتبارات لا أفهمها وظنون لم تصل ليقين أن كُتاب الأعمدة فى الصحف صاروا مثل أسراب النمل فى النملية وفيها بقايا حلوى!. كان هيكل يوجه نقدًا لرؤساء التحرير الذين يسمحون لشباب لم «يحترق» فى المهنة ويكتب عمودًا صحفيًا، أو فتاة متخرجة حديثًا وحلاوتها كافية فتكتب عمودًا ولم تتدرب بعد على كتابة التحقيق الصحفى، هذا من عيوب صحافتنا!، وربما خضعت صحافتنا بعض الوقت للمجاملات رغم أنه «لا مجاملات فى المهنة»، فالموهوب يفرض نفسه، وقديمًا قيل إن الموهبة مثل «امرأة حامل فوق سنام جمل»!. وكان د. مصطفى سويف يرى أن من حق الموهوب أن يظهر للناس ليكشف عراة المواهب وهم كثيرون وكثيرات!. كان الأستاذ هيكل- رغم إعجابه بى كمحاور- لم يقع اختياره علىَّ لأعمل معه فى الأهرام ولكنه اختار الراحل أحمد بهجت لأنه كان صاحب أسلوب أفضل منى، ويوم طلبت من الأستاذ هيكل حوارًا طويلًا وكانت استجابته سريعة قلت فى سرى: حان اعتراف الأستاذ بتلميذه!.
وبالفعل قال: حوارنا ستنشره سناء البيسى رئيسة تحرير نص الدنيا، فهى الأكفأ بين رؤساء تحرير المجلات، وبالفعل نُشر الحوار عبر ١٤ أسبوعًا وتحول إلى كتاب «هيكل الآخر»، وكتب مقدمته د. مصطفى الفقى، الذى يملك ناصية أجمل إبداعات السرد فى الكتابة. وفى جيلى كان السعدنى الكبير أستاذ السرد والأسوانى «أستاذ مساعد»!، فالمتعة عند السعدنى فى وصف العباد. والمتعة عند الأسوانى فى السخرية من نفسه، لكن الفقى وهو موسوعة معلومات وتجارب سياسية معنىٌّ بالتفاصيل!.
-٥-
فن الكتابة
هو فن التعبير عن الذات، وكل كاتب له لوازمه وطقوسه، كان رامى يكتب روائع أم كلثوم بنصف قلم رصاص، كان يوسف السباعى يكتب بقلمه الحبر الشيفر، وكان أنيس منصور يكتب فى ساعات الفجر الأولى، وكان نجيب محفوظ يكتب على أنغام أغانى أم كلثوم، وعرفت من الأستاذ هيكل أن معظم ما كتبه فى «بصراحة» كان فى برقاش بيته الريفى، وكان يوسف السباعى عنده القدرة ليكتب فى الطائرة.
-٦-
كلفنى فتحى غانم، رئيس تحرير صباح الخير، ذات فترة بإجراء حوار مع رئيس حديقة الحيوان بالجيزة عبدالله النجومى باشا، وحصلت على الموعد وجلست أكتب «الحوار الصحفى» واخترت العناوين الملائمة.. وفى اليوم التالى قدمته لرئيس التحرير وكان خصص ٤ صفحات له.. وجلست أنتظر قراءة الموضوع، وكان تكليفى أول مهمة أنجزها فى زمن فتحى غانم الذى أعتبره روائيًا فخمًا، ولا أدرى السر فى وصفه بالفخامة، ولكن إحساسًا داخليًا ساورنى وأنا أقرأ له رواية «الساخن والبارد»، ثم اتصل بى تليفونيًا عبر السويتش الأرضى وطلب منى أن أذهب إلى مكتبه، كان أحمد بهاء الدين قد ذهب إلى الأهرام، وبسرعة دخلت مكتب فتحى غانم.. ودقات قلبى تتسارع ووقفت!..
قال لى فتحى غانم رئيس التحرير:
لن أنشر هذا الحديث لأربعة أسباب!
للمقال بقية الأسبوع القادم.
نقلا عن المصري اليوم