عاطف بشاي
«الزوجة لا تطيق زوجها قارئًا أو كاتبًا».. جاءت هذه العبارة على لسان زوج مقهور هو بطل رواية «الأسوار العالية» لـ«عباس الأسوانى».. هذا الزوج البائس كاتب مسرحى موهوب ومغمور استغله صديقى المخرج المسرحى وابتزه.. بل أجبره على الكتابة له من الباطن.. وتصدرت أفيشات مسرحياته اسمه بمفرده ككاتب ومخرج.. واستولى على حقه الأدبى مقابل مبالغ هزيلة.. وحقق بذلك شهرة كبيرة.. بينما ظل المؤلف الحقيقى مجهولًا يعانى من الإحساس الطاغى بالقهر والغبن والاكتئاب.. وفى ذروة معاناته النفسية باح بأنه المؤلف الحقيقى على طريقة «عاطف الأشمونى» صاحب مسرحية «الجنة البائسة» التى سبق أن جسدها الفنان «محمد عوض» فى الستينات.. وما تلبث الزوجة الحسناء فى رواية «الأسوانى» أن تضيق بزوجها الأديب وبخنوعه وضعفه وهوانه واستسلامه لوضعه المزرى وكرامته المهدرة، وينتهى بها الأمر إلى خيانته مع صديقه النجم اللامع وتنتهى الرواية باكتشافه الخيانة.. وقتله لغريمه.
تذكرت العبارة التى بدأت بها المقال.. وأنا أقرأ ما سبق أن كتبه الكاتب الكبير «أنيس منصور» عن القاعدة التى يراها سائدة وتتحكم فى حياة الأدباء؛ أنه لا سعادة مع الزواج.. ولا زواج مع السعادة.. فالزواج ينبوع السخط ومصدر التمرد لأنه قيد ثقيل.. وهو يفسر بطريقته المتفلسفة الشيقة لماذا إذًا يحرص كثير من الأدباء على الاستمرار فى حياتهم الزوجية، وكان فى مقدورهم أن يعودوا إلى حياة ما قبل الارتباط.. وما قبل التلازم فى الطعام وفى النوم وفى المصير.. ولكنهم تمسكوا بنفس الزوجة.. ونفس الجو الذى يعطيهم نفس الدرجة من الحرارة.. حرارة السخط الملهمة..
الغريب فى الأمر ذلك التناقض والازدواجية التى يعيشها الأدباء فى ظل العلاقة الزوجية التى تفرض عليهم العزلة والوحدة والتفرغ التام للإبداع.. وهذه الصورة المعقدة التى يعيشها الأديب لا تشعر بها الزوجة.. بل تجد نفسها عادةً أمام إنسان مأخوذ مسلوب.. مخطوف فى غيبوبة هى غيبوبة الوعى الحقيقى للفنان.. والزوجة هنا ترى الزوج من خلال متاعبها معه.. وليس من خلال متاعبه عمومًا.. فهى تراه وكأنه ليس زوجًا.. فلا حياة اجتماعية له.. ولا هو رفيق أو زوج أو أب.. وإنما هو صورة زائفة للزوج، أو هو شبح للرجل الذى كانت تعرفه قبل الزواج.. أو إنها ليست السيدة الأولى فى حياته.. فهو يهتم بالقراء أكثر من اهتمامه بالزوجة.. وهو يهتم بالورق والقلم أكثر من اهتمامه بأناقتها ومكياجها.
وأقصد بازدواجية الزوج الأديب هنا ما نراه مثلًا فى حياة الروائى العظيم «تولستوى»، فتوحده مع ذاته الإبداعية لم يمنعه من الضغط على زوجته لمواصلة الإنجاب ذلك لحبه البالغ للأطفال.. وقد امتثلت لرغبته فولدت له (11) ولدًا.. فكيف استقامت عزلته الإجبارية مع صخب أطفال يملأون البيت؟!.. وهذا الوضع المدهش نجده يتكرر مع الأديب «مصطفى صادق الرافعى» الذى عاش معظم أيام حياته حبيس حجرة مكتبه فى منزله بـ«طنطا»، لا يبارحها إلا يومًا واحدًا فى الأسبوع، حيث يسافر إلى القاهرة كل يوم ثلاثاء ليحضر ندوة صالون «مىّ زيادة».. وقد أنجب من زوجته أيضًا (11) طفلًا.. وظل متمسكًا بحياة زوجية مستمرة ودائمة معها على الرغم من حبه الأفلاطونى «لمى» من طرف واحد.. بل إنه صارح زوجته بحقيقة حبه تلك وأوعز لها أنها تمثل بالنسبة له «ملهمة» تفجر فى داخله بواعث الإبداع، والغريب أن زوجته استقبلت تصريحه ذلك بهدوء ورضا وأبدت موافقتها على حبه لامرأة أخرى، طالما أنه مصدر وينبوع فياض لأشعاره الجميلة الموحية والمشبوبة بالعواطف الملتهبة.
لقد أقنعها الرافعى إذًا أن إبداعه الفنى هو الهدف الحقيقى للمؤلف.. وأن حياته كلها مسخرة لهذا الهدف، وعليها هى كزوجة أن تقوم بواجباتها الزوجية والمنزلية التى تشمل رعايته ورعاية أولاده، فهذا هو الهدف الحقيقى للزوجة الفاضلة.. وكان هذا ما سعى إليه «توفيق الحكيم» حينما حسم أمره بالزواج وهو فى الثامنة والأربعين بعد تردد طويل.. نتيجة لظنه أنه لن يجد المرأة المناسبة التى تقبل أن تعيش معه وهو صامت معظم الوقت.. وأنه حينما يعود من عمله إلى بيته تعود أن يدخل حجرته ويغلق بابه على نفسه، ولا يسمح لأحد بالدخول عليه أو الثرثرة معه فى أمر من الأمور.. وبسبب هذه المخاوف أعلن الحرب على المرأة العصرية العاملة التى تريد أن تشارك زوجها فى أحلامه واهتماماته وأفكاره، وأحاديثه الخاصة التى يجريها مع نفسه، لذلك فقد وضع شروطًا قاسية يلزم بها من يتزوجها وافقت عليها كلها السيدة التى اقترن بها.. وقد كان صريحًا وواضحًا فى موقفه من الزواج.. وصرح كثيرًا بأنه زوج من القرن التاسع عشر.
لكن الأديبة «سيمون دى بوفوار» كانت تدرك قبل ارتباطها بـ«سارتر» أنه أديب ومفكر وفيلسوف طوال الوقت.. وسوف يكون زوجًا فى وقت الفراغ.. ولاحظت أنه لا يستطيع أن يخضع لأى قانون أو ارتباط أو التزام.. وأن إحساسه بما يسمى بالأسرة باهت، وشعوره بمسؤوليات وتبعات الزواج منعدم.. إنه باختصار لا يصلح زوجًا.. فاتفقت معه على عدم الزواج بعقد.. وتم ذلك وعاشت معه أكثر من ثلاثين عامًا لا يفترقان.
لكن «أنيس منصور» يلتقط المفارقة التى تكشف عن معاناتها بسبب زواجها منه.. لقد وقعت فى المجال المغناطيسى لفيلسوف عظيم لا يمكن أن تكون ندًا له.. فجاهدت أن تبدو مستقلة عنه.. وتختلف معه فى كثير من وجهات نظره فى آرائه الفلسفية والفنية والاجتماعية.. لكنها لم تنجح فى ذلك فقد أصبحت طوال الوقت مطالبة بأن تتحدث عنه.. لكن أحدًا لم يطالب «سارتر» بأن يتحدث عنها.
نقلا عن المصرى اليوم