عاطف بشاي
«إحنا ما اتفقناش على كده.. الأسئلة محتاجة تفكير».. العبارة السابقة صرخت بها طالبة باكية منتحبة، وتقصد بها إدانة واستنكار موقف واضعى الثانوية العامة'> امتحانات الثانوية العامة ومسؤولى وزارة التربية والتعليم، وعلى رأسهم وزير التعليم، لحنثهم بالوعد وخداع الطلبة من خلال تصريحاتهم الدائمة فى صفحات وسائل الإعلام المختلفة، التى تحملها مانشيتات كبيرة يومية تبشر الطلبة والطالبات بامتحانات سهلة، أسئلتها لا تخرج عن المقررات ولا نماذج الإجابات، وتتسم بالمباشرة والنقل، وتتماشى مع طرق التدريس التى تعتمد على التلقين والحفظ، وتتسق مع خطة الوزارة الاستراتيجية التى تعلنها دومًا بجسارة وفخر وزهو، بحرصهم على أن تكون أسئلة الامتحانات فى مستوى الطالب «المتوسط» مكافأة له على التزامه المحمود بسياسة الوزارة بإلغاء ومحو التفكير وإعمال العقل.. وهى سمات يتسم بها الطالب النابه الذكى النابغة تطبيقًا لفضيلة عدم التمايز بين الممتحنين وتماشيًا مع مبادئ العدالة الاجتماعية.. فالكل سواسية، نوابغ ومتوسطين وبلداء، فى ظل مجتمع تكريس المساواة.. وفى إطار الخطة الجهنمية لتطوير التعليم وتخليصه من آفة التفكير، الذى بدوره- والعياذ بالله- يُفضى إلى التكفير، خاصة أن هناك هيئة متخصصة من هيئات الوزارة تُدعَى «هيئة تطوير المناهج الدراسية»، تعمل بكفاءة واقتدار فى هذا الشأن.. وتتمخض جهودها عن اختبارات «الاختيارات»، التى تشبه برنامج «مَن سيربح المليون»، الذى يقدمه «جورج قرداحى»، فمثلًا يُطرح السؤال هكذا: ضع علامة «صح»: مَن أول رئيس لمصر بعد ثورة 23 يوليو: (نابليون- كاسترو- محمد نجيب)؟، وبالتالى فإنه من ملامح ذلك التطوير الطموح الذى يراه جهابذة التعليم لدينا يضاهى- بل يتفوق على- طرق الامتحانات فى الدول الأوروبية المتقدمة أن تختفى تلك الأسئلة السخيفة من نوعية: حلِّل- ناقِش- وضِّح- اشرح بأسلوبك- قارِن- عبِّر عن وجهة نظرك- استنتِج- برهِن- دلِّل- علِّل.
ومن هنا فقد اقتصر دور هذه الهيئة على حذف التطويل والإبانة والحشو، والاتجاه إلى التلخيص والاختصار والاقتضاب فى طرح المعلومات بالمحافظة القدسية على الحفظ والصم واجترار سطور الكتب والثبات على المناهج المتخلفة والتراثية المتحجرة التى لا تتناسب مع العصر.. وهكذا تتوالد أجيال أولئك الذين يجتازون مرحلة الثانوية العامة.. ويدخلون الجامعات والمعاهد ممن تتربوا على القبوع فى خنادق ازدراء التفكير ونبذ المعرفة والوعى.. وينعَمون بإقصاء العقل باعتباره من الكبائر المحرمة.
لذلك فقد كانت سعادتى بلا حدود عند متابعتى مداخلة الرئيس «السيسى»، مع الإعلامية «عزة مصطفى»، على قناة «صدى البلد»، حينما تم طرح سؤال: لماذا نخاف من التفكير ونقدس المعتاد والمألوف والسائد والمتوارَث والشائع والمسلمات والأعراف البالية والثوابت الغبية.. ونتيه فخرًا وزهوًا بكُهّان الرِّدّة الحضارية والدجل والاتجار بالدين، الذين فرضوا علينا أوراق التكفير الصفراء وكتب التحريم.. وثقافة الحلال والحرام.. لماذا لا نطرد بالعلم والعقل والتفكير عناكب فرض الوصاية الأخلاقية من أعداء الحياة وأبناء الكراهية.. وكل ما هو جامد ومتكلس وتجريف فكرى ونبذ الآخر والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والفتاوى الشاذة والروح الجاهلية والنفوس القبيحة والأردية الصحراوية؟.
إن لسان حال «السيسى» يقول لنا: لقد انتزعت الوطن من مخالب فاشية الإرهاب، فحان الوقت لأن نسعى معًا إلى إعادة البناء والانتصار للهوية المصرية وإضاءة شموع الحرية والاستنارة وتدعيم دولة ليبرالية حديثة تعيدنا إلى عصر النهضة تحتفى بالفكر وإعادة الوعى وترميم الصدوع التى أصابت الشخصية المصرية، وقد استتبع الرئيس المداخلة المهمة باجتماع مع وزير الأوقاف لتعزيز خطة الدولة لنشر الفكر الوسطى الرشيد ومبادئ صحيح الدين وتصحيح المفاهيم الخاطئة، التى حاول من خلالها دعاة الظلام وإرهابيو العصر إفساد الدولة المدنية التى تتسق وحضارتنا الضاربة فى عمق التاريخ.
وإذا كانت الدعوة موجهة إلى المثقفين والتنويريين للقيام بدورهم التاريخى لخلق وعى مجتمعى مناهض لما أصابنا من تراجع حضارى واستنفار الهمم لاستشراف مستقبل يحتفى بالانتصار للتفكير والعقل والنهضة، فإنى أرى من الحتمى أن ندعو إلى ثورة حقيقية تشمل تطويرًا جذريًا شاملًا للمنظومة التعليمية.. فالتغيير الشكلى الزائف المعنى بـ«التابلت» و«الأون لاين» و«الإم سى كيو» أسهم إسهامًا فعالًا وخطيرًا فى القضاء على ما عبر عنه المفكر «خالد منتصر» من انتفاء التفكير وإعمال العقل فى البحث والتنقيب والاكتشاف والبناء والخيال والابتكار، فالتعليم لدينا معناه أن ندخل فى قفص الدواجن، لا أن نُحلق مع النسور.. وكل سنة دراسية يتقلص خيالنا معها بالمذكرات المحفوظة والتلقين والعصر الجاهلى.
أليس من المُخزى مثلًا ألّا تحتوى المناهج على كتابات رواد التنوير، ابتداء من رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين والإمام محمد عبده وعلى عبدالرازق، ثم لطفى السيد وطه حسين وهدى شعراوى وزكى مبارك.. وتتوقف مناهج الشعر عند «شوقى» وحافظ إبراهيم، ولا تُدرس أشعار الحداثة، ابتداءً من صلاح عبدالصبور وعبدالمعطى حجازى وأمل دنقل ونزار قبانى و«جاهين» و«الأبنودى»، ويتم الاحتفاء بمُعلَّقة عمرو بن كلثوم، داعشية المحتوى، ولا تُدرس روايات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، بينما تُدرس رواية لعلى أحمد باكثير، والتى تتناول حقبة المماليك، بما تحويه من خيانة وغدر وتآمر وانتقام وقتل ومذابح ومهازل.. ويتم تجاهل رسالة التنوير العظيمة ليحيى حقى من خلال روايتى «قنديل أم هاشم» و«البوسطجى».
لا بد من ثورة عاتية.. تشمل المناهج الدراسية، يضعها متخصصون من أدباء وشعراء ومفكرين وفلاسفة وعلماء ونقاد، لا موظفو ومفتشو وزارة التربية والتعليم.
نقلا عن المصرى اليوم