بقلم : يوسف سيدهم
مشكلة القمامة -لا بل الأحري أن أقول كارثة القمامة -باتت معضلة سرطانية تهدد جسد المجتمع المصري, وهي معضلة تتعدد أسبابها وتتشابك حتي يعجز المرء عن تصور كيفية القضاء عليها… فليت الأمر ينحصر في منظومة إعادة تدوير القمامة تلك المنظومة التي صدعتنا حكومتنا من كثرة الحديث عنها, إنما تعود المعضلة إلي الجذور بدءا بالسلوكيات السيئة المنفلتة للمواطنين ومرورا بعدم يقظة أجهزة الإدارة المحلية وامتدادا لفوضي تجميع القمامة قبل فرزها, كل ذلك قبل الوصول إلي مبتغي إعادة تدويرها… وكل مرحلة من تلك المراحل كارثة في حد ذاتها:
** السلوكيات السيئة المنفلتة للمواطنين: إنه لأمر مخجل أن نتناول العادات غير المنضبطة للمصريين بخصوص مخلفاتهم وكيفية التخلص منها.. وأرجو ألا تكون المصارحة في هذا الإطار جارحة لأنها سبيلنا إلي تحديد أصل البلاء إذا ابتغينا العلاج.. فالمصريون -إلا نفرا قليلا منهم- تعوزهم معايير النظافة الشخصية بالإضافة إلي تدابير نظافة مساكنهم أو أماكن عملهم الخاصة, فلا غرابة إذا أن نجدهم غير مكترثين بتجميع مخلفاتهم وقمامتهم للتخلص منها بطريقة صحية آمنة, بل ينزعون إلي إلقائها خارج حدود مساكنهم أو أماكن عملهم الخاصة دون مراعاة لأية معايير مثل بعثرتها خارج باب المسكن أو مثل إلقائها من النوافذ والشرفات علي قارعة الطريق أو مثل إلقائها من الأدوار إلي المناور الداخلية لتتحول أرضية المناور إلي سلة قمامة كريهة بغيضة… كل هذا الانفلات يبررونه بأن الزبال شغلته يلم الزبالة.. هو إحنا هانلمهاله كمان؟!!! غير عابئين بجيوش الذباب والحشرات التي ترتع وسط تلك الفوضي أو بما يهدد صحتهم وصحة أولادهم من جراء هذه السلوكيات البائسة.
وطبعا إذا كان هذا هو حال أولئك المصريين في نظافتهم الشخصية ونظافة مساكنهم وأماكن عملهم الخاصة, فلا عجب أن نجدهم في غاية الانفلات في تعاملهم مع مخلفاتهم التي يلقونها بلا أي غضاضة في الطريق العام والأماكن العامة والحدائق والشواطئ ووسائل المواصلات… إلي آخر ذلك من أماكن تحركاتهم وترددهم… والمحصلة في النهاية أن أية جهود تبذل لمحاصرة مشكلات القمامة وتجميعها وفرزها وإعادة تدويرها تصطدم بذلك الواقع المحبط الذي يصرخ يا للهول.. من أين نبدأ؟!!.. ويلوح لي أن الإجابة علي هذا السؤال تكمن في سياستين: الأولي في آليات الرقابة واليقظة من جانب أجهزة الإدارة المحلية -وبالتعاون مع منظمات المجتمع المدني- لتفعيل منظومة الثواب والعقاب فيما يخص تجميع القمامة وأساليب التخلص منها… والثانية في غرس المبادئ التربوية للنظافة والتعامل مع القمامة في مدارسنا لإمكان إعداد أجيال من أطفالنا تغرس فيها هذه المبادئ وتشب علي الحرص علي النظافة واحترام الجمال.
** فوضي تجميع القمامة قبل فرزها: ما يتم في مبانينا سواء السكنية أو غير السكنية ومن بعدها شوارعنا ومجمعات القمامة بها يدل علي فوضي رهيبة وإهدار للجهد بشكل مخيف, إذ أن السماح بإلقاء وتجميع القمامة مختلطة بجميع مكوناتها دون فرز مسبق هو التخلف الذي يفوق المخلفات نفسها (!!) فكيف يستقيم أن نسمح بالجمع في سلة قمامة واحدة بين بقايا الطعام وما ينتمي إلي نوعية المخلفات العضوية والبيولوجية وبين كل من مخلفات الورق والكرتون والبلاستيك والزجاج والعبوات المعدنية؟.. إن ذلك يؤدي بالقطع إلي انتشار التلوث عبر كل تلك المكونات علاوة علي كونه يضاعف من جهود الفرز المطلوبة لفصلها عن بعضها بعضا لتوجيهها إلي القنوات المختلفة لإعادة تدويرها.
ولعلي في هذا الإطار أذكر المجتمعات التي سبقتنا في تطبيق نظام الفرز الذاتي من المنبع -والأمر الكارثي أننا في تاريخنا نزهو بأن أجدادنا القدامي هم من علموا شعوب هذه المجتمعات مبادئ وآليات النظافة!!! -وهذا النظام بسيط ويتلخص في قيام المواطن في مسكنه أو عمله بفصل كل نوع من أنواع القمامة في كيس خاص ثم يقوم بإلقاء كل نوع في صندوق القمامة الخاص به- والذي يحمل لونا مميزا له- ضمن صناديق تجميع القمامة العامة الموضوعة بالطريق العام… وتجدر الإشارة هنا إلي أن مصر تذكر وزيرة البيئة الدكتورة ليلي إسكندر التي تولت وزارة البيئة في حكومة الدكتور حازم الببلاوي عام 2013 ومن بعده في حكومة المهندس إبراهيم محلب عام 2014 والتي كانت لها رؤية ثاقبة وطموحة في مجال توزيع أكياس القمامة الملونة حسب كود نوعيات المخلفات مجانا علي المواطنين في محاولة لغرس ثقافة الفرز المسبق للقمامة… ولكن يبدو أن مثل سائر الرؤي التقدمية الإصلاحية في بلادنا يكون مصير الرؤية أن تذهب مع ذهاب صاحبتها!!!
** مبتغي إعادة تدوير القمامة: وهذا هو الهدف النهائي للتعامل مع القمامة والذي تمكنت المجتمعات المتقدمة من خلاله من تحويل القمامة إلي رصيد مضاف لموارد المجتمع بعد أن كانت عبئا ثقيلا يتم التخلص منه في مدافن ضخمة وسط تدابير صحية صارمة للحيلولة دون تفشي العدوي والأوبئة فيها… ونحن الآن في بلادنا نتشدق ونزهو كثيرا بأننا خطونا نحو تطبيق منظومة إعادة تدوير القمامة (!!).. لكن النظرة إلي واقعنا الغارق في بحار القمامة تقول: أسمع كلامك أصدقك.. أشوف زبالتك أستعجب!!!