عبد المنعم سعيد
قال لى أستاذى بعد أن تساءلت عما إذا كان قلقه إزاء شأن عام غير مبرر: «ولكن وظيفتنا أن نقلق». الباحثون والمتابعون للشأن العام عليهم أن يقلقوا ليس فقط من شدة الحرص على الوطن ومستقبله، وإنما أكثر من ذلك القيام بواجبات وظيفية لابد منها فى كل دولة رشيدة. خلال الأيام القليلة الماضية انتابنى القلق مرتين: الأولى عندما وجدت زميلًا وصديقًا مؤرخًا وفيلسوفًا ينزلق إلى الدخول فى موضوعات كرة القدم من زاوية الفتنة الكبرى الجارية فى البلاد بين المتعصبين فى الأهلى والزمالك. هو انزلاق ليس فيه سلامة لأنه حتى الزملاء فى ذات القناة التليفزيونية، بل ذات البرنامج، لم يكن أمامهم بد من المواجهة بوجهة نظر الطرف الآخر. لم يكن فى الأمور عبور لخلاف أو جسور تربط بين شطآن، وإنما كانت الكلمة بكلمة، والغمزة بأخرى. لم يكن فى الأمر «تعليم» من أحد على الآخر، وظهر أن ما يدور فى وسائل التواصل الاجتماعى من حرائق حول المنافسة بين «قطبى الكرة المصرية» قد وصل دخانه إلى داخل النخبة الفكرية. لم يكن فى أى من ذلك ما يتماشى مع الحديث عن «الدولة الوطنية» والوحدة وقت البناء والتعمير وأخذ مصر مكانتها، وإنما كان يأتى من منطقة «أشباه الدول»، التى يقتل فيها الناس أو سمعتهم من أجل هدف أو نقطة. كنا نخرج بسرعة من مساحة إيجابية خصت الرياضة كلها عندما عاد الوفد المصرى من أوليمبياد طوكيو بخمس ميداليات كانت الذهبية منها من نصيب واحدة من بنات مصر الشجعان. خرجنا فورًا من البناء على ما تحقق والاستعداد لما سوف يأتى إلى محرقة الأهلى والزمالك، التى تقوم على آلية تتوالى فيها موجات الكراهية والتعصب.
وكأن كل ذلك لم يكن كافيًا إلا وجاءت موجة المباريات المؤدية إلى كأس العالم، ومعها امتلك الساحة تعبير أن الرأى العام المصرى مصمم على الإطاحة بمدرب الفريق، وهو ما حدث بالفعل بإقالة الكابتن حسام البدرى. لم يكن فى الأمر هزيمة هذه المرة كما حدث فى مرات سابقة، وإنما أن الفريق لا يلعب بما يليق بالمكانة المصرية. ولا بأس بالطبع من الحديث عن المكانة، ولكن ما يليق بهذا المستوى من الحديث والنقاش أن يتولاه متخصصون وفنيون ومسؤولون، فكما يحدث فى الأمور القومية الكبرى فإن لجنة فنية تتولى الأمر، خاصة على ضوء الكثير من الالتزامات المصرية التى تحتاج الكثير من التوازنات وأخذ الأمور فى الاعتبار. وحيث يستحيل أن تجرى عملية جراحية على أساس آراء مجموعة من المتفرجين الذين يقررون ما يجب تغييره أو استبداله فى جسد المريض دونما تشخيص المرض وتحديد طرق العلاج التى لا تحتاج فى كل الأحوال مشرط الجراح. تقرير الأمور القومية لا ينبغى له أن يتم أبدًا من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، أو مدربين محدودى القدرة فى أندية الدرجة الثانية امتلكوا نواصى برامج التحليل الرياضى، أو مَن وجدوا فى وجه المدرب «تكشيرة» لا ينبغى لها أن توجد.
هذه أمور جادة وتحتاج تناولًا جادًا يضع فى اعتباره أن هناك حدودًا للحماس والتناول الشعبى للأمور. والأصل فى القضايا المثارة أعلاه أن الرياضة ضرورة للشعب المصرى نظرًا لعلاقاتها بالصحة العامة، والآداب الضرورية لعلاقات المواطنين. حينما شاهدت مباراتى مصر مع أنجولا والجابون انتابنى الأسى كما حدث مع كثيرين، ولكننى كنت أعلم أيضًا أن مصر لم تَفُزْ أبدًا بكأس العالم، وأمامها طريق طويل للوصول إلى هذا الهدف، بل إنها لم تصل إلى النهائيات إلا ثلاث مرات، عشت لأرى اثنتين منها، وفى كل مرة بعد الفرحة الطاغية للوصول، كان الحزن العميق عند الخروج. لم تكن الرياضة فى مصر وسط دول العالم مختلفة عن مكانتها فى ميادين الصناعة والزراعة والصحة العامة، وإذا لم يكن حسام البدرى «جوارديولا» فإن مصر أمامها الكثير لتقوم به لكى تكون مثل ألمانيا، ومنها أن تعرف أن الرياضة علم عميق، وتدريب قاسٍ، وقدرة هائلة على التنظيم والانضباط فى إدارة المنظومة الرياضية، وفى مقدمتها كرة القدم، فلا يكون الدورى العام بمثل ما نراه، ولا يكون اللاعبون بهذه الحالة من اللياقة البدنية، ولا يكون الرأى العام بهذا التسرع عند كل جولة، فتكون التغييرات متعجلة ومرة بسبب المستوى، ومرة بسبب الطرق الدفاعية «العقيمة». الإصلاح طويل يحتاج إلى الكثير من الصبر والحنكة وتراكم الخبرة، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه فسوف تكون مسيرتنا كما هى فى تلك الحلقة المفرغة الجهنمية القائمة على الغضب.
نقلا عن المصري اليوم