فاروق عطية
بعد نجاح الحركة في الاسليلاء علي مقاليد الحكم، فرض الجيش على الملك فاروق الأول التنازل عن العرش لولي عهده الامير احمد فؤاد ومغادرة البلاد في 26 يوليو، وتشكيل مجلس وصاية على العرش، صارت ادارة الامور بيد مجلس قيادة الحركة المشكّل من 13 ضابطا كانوا هم قيادة تنظيم «الضباط الاحرار»، وتم اُلغاء النظام الملكي وأُعلان الجمهورية في 1953م.
كان المُعلَن أمام الشعب أن نجيب هو قائد الحركة، بينما ظلت السلطة الفعلية بيد مجلس قيادتها برئاسة جمال عبدالناصر؛ حتى 25 أغسطس 1952م عندما صدر قرار من المجلس بضم نجيب إلى عضويته، ثم أُسندت إليه رئاسته بعد أن تنازل عنها عبد الناصر مراعاة لفارق السن والرتبة العسكرية، ولعدم إثارة استهجان الشارع. وفي 18 يونيو 1953م أصدر المجلس ذاته قرار إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية، وإسناد رئاسة الجمهورية إلى محمد نجيب بجانب رئاسته للوزارة التي شغلها منذ 7 سبتمبر 1952م. أما عبدالناصر فقد تولى أول منصب عام كنائب لرئيس الوزراء ووزير للداخلية في الوزارة التي تشكلت بعد إعلان الجمهورية، وفي الشهر التالي ترك عبدالناصر منصب وزير الداخلية ليتولاه زكريا محيي الدين، ويحتفظ برئاستة للوزارة.
كانت الكيمياء السياسية بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر متدنية منذ البداية ربما بسبب الفجوة الجيلية بينهما، أو نتيجة لاختلاف الشخصية القيادية والطموحة لكل منهما في مواجهة الآخر، وشعور عبد الناصر بأن صلابة نجيب وكاريزميته وحب الجماهير له قد أسهمت في تهميش دوره وإجهاض تطلعاته ومشاريعه السياسية، برغم ما بذله من جهود مضنية في تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار» وتجشم مغامرة التحضير للحركة وإنجاحها.
كان نجيب يؤمن بنظرية الجيش «الحارس»، أو «الضامن» لعملية التحول الديموقراطي من دون انخراط في العملية السياسية بعد نجاح الحركة، ومن ثم طالب بضرورة عودة الجيش إلى ثكناته وترك مهام الحكم للأحزاب والقوى المدنية، التي كان يفترض أن تأخذ على عاتقها تأهيل الشعب لاستكمال مسيرة التحول الديموقراطي بالتوازي مع جهود بناء الدولة. في المقابل كان عبدالناصر لا يثق بالنخبة المدنية وقتذاك، ويعتبرها سبباً رئيسياً لتدهور أوضاع البلاد على النحو الذي أفضى إلى القيام بالحركة، ومن ثم رأى ضرورة استئصال تلك النخبة بأفرادها ومؤسساتها من المشهد السياسي، وإقصاءها عن الحكم حتى لا يعاد إنتاج المأساة مجدداً، كما كان يرى ضرورة تأجيل الديموقراطية السياسية إلى حين تأمين «الثورة» وتحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية بما يساعد على بناء الدولة، في سياق ما سمّاه «الديموقراطية الاجتماعية».
كان ناصر لا يزال في مطلع الثلاثينات من عمره، حينما استولى الانقلاب العسكري علي الحكم، بينما كان نجيب قد تجاوزَ الخمسين. وبدت فجوة الأجيال بينهما، في بيان مجلس قيادة الثورة، حين ذكر: «قرر الضباط الأحرار وقت تحضيرهم «للثورة» في الخفاء أن يقدموا للشعب قائداً «للثورة» من غير أعضاء مجلس قيادتهم وكلهم من الشباب، واختاروا فعلاً فيما بينهم اللواء أركان حرب محمد نجيب ليكون قائداً «للثورة»، الذي كان بعيداً عن صفوفهم، وهذا أمر طبيعي للتفاوت الكبير بين رتبته ورتبهم، وسنه وسنهم، وكان رائدهم في هذا الاختيار سمعته الحسنة الطيبة وعدم تلوثه بفساد قادة ذلك العهد».
اشتعل الخلاف بين ناصر ونجيب واشتد الصراعٍ بينهما على الاختصاصات والصلاحيات، كذلك على السُلطة والحُكم، تملك عبد الناصر إحساس بالغبن والغيرة جراء الحفاوة التي حظي بها نجيب داخل البلاد وخارجها رغم إحساسه بأنه القائد الحقيقي للحركة؛ لذا بدأ التخطيط منذ منتصف عام 1953م، لإزاحته عن السلطة التي كان يعتبرها حقاً مشروعاً له. وتجلت أولى خطوات عبد الناصر لبلوغ مآربه في السيطرة على القوات المسلحة باعتبارها عنصر الحسم لأي صراع على السُلطة والحُكم، لذا خطط قبل إعلان إلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية في 18 يونيو 1953م وتولي نجيب رئاسة الجمهورية، أن ينتزع قيادة القوات المسلحة منه وإسنادها لصديقه الحميم وموضع ثقته عبد الحكيم عامر، بعد ترقيته بالتزامن من رتبة رائد أركان حرب إلى لواء أركان حرب دفعة واحدة، رغم اعتراض نجيب وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة - خاصة عبداللطيف البغدادي- لهذه الترقية.
ويبدو أن الروية وبُطء الإيقاع في اتخاذ القرارات لدي نجيب كانت تُغضِب شباب الضباط المفعمين بالحماسة، الأمر الذي غذى نزعات أولئك الشباب للإطاحة به. وفي مسعى من عبد الناصر لتقليم أظافر نجيب، سعى للاستقواء بأصدقائه المقربين وأبناء جيله عبر إسناد مناصب حسَّاسة إليهم بعد سلبِها من نجيب، فكان القرار الجمهوري بترفيع عبدالحكيم عامر وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ليشرع بعدها في إبعاد باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة عن أسلحتهم بذريعة إفساح المجال للقائد العام، كما عمد إلى عزل ضباط الأسلحة عن ممثليهم في مجلس قيادة الثورة. ونجح عبدالناصر بالاشتراك مع عامر في تكوين مجموعات داخل مختلف أسلحة الجيش من الضباط المتوسطي الرتب المنتمين إلى «الضباط الأحرار»، وهي المجموعات التي عهد إليها أداء أدوار مهمة في أزمتي فبراير ومارس 1954م.
كان من أهم العوامل المُؤجِجة للصراع بين ناصر ونجيب موقف كليهما المختلف من مرحلة الحكم قبل يوليو 1952م، فقد جنح ناصر ورفاقه لإحداث قطيعة تامة مع الماضي، الذي كانوا يعتبرونه فاسداً برمته وسبباً في تخلف البلاد، وكان لنجيب وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة رأي آخر يتمثل في استحالة طي صفحة الماضي كلية مع إمكانية الاستفادة من بعض الإيجابيات التي كانت قائمة قبل الثورة والبناء عليها، كالحوار مع بعض الشخصيات السياسية مثل مصطفى النحاس، علاوة على استبقاء الأحزاب والحركات السياسية المدنية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، التي لم يتورع ناصر عن اتهام نجيب بالتواصل معها بعد الثورة، ثم بالتنسيق معها لتصفيته في الإسكندرية أثناء إلقاء خطابه الشهير هناك في 26 أكتوبر1954م.
بدأت الأزمة يوم الثلاثاء 23 فبراير 1954م، بالرسالة التي بعثها اللواء محمد نجيب إلي مجلس قيادة الثورة وكانت تتضمن استقالته من جميع المناصب التي يتولاها، بعد أن أيقن ان استمراره رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس الثورة ورئيسا للوزراء أصبح أمرا مستحيلا بسبب التجاهل وعدم الاحترام من مجلس قيادة الثورة. عقد مجلس الثورة عدة جلسات أصدر المجلس في الساعة الثانية من صباح الخميس25 فبراير بيانه بقبول استقالة محمد نجيب وتعيين البكباشي جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة علي أن يبقي منصب رئيس الجمهورية شاغرا لحين عودة الحياة النيابية للبلاد.
كان لهذا البيان آثار عكسية، فعمّت المظاهرات العاصمة والأقاليم تأييدا لنجيب لثلاثة أيام، وفي نفس الوقت عمت المظاهرات شوارع الخرطوم وبعض المدن السودانية وهي تهتف(لا وحدة بلا نجيب). وتأزم الوضع في الجيش مرة أخري اثر اعتقال ضباط من سلاح الفرسان الموالين لنجيب وسرعان ما وجه بعض ضباط سلاح الفرسان انذارا بأنه اذا لم يفرج عن زملائهم فإنهم سيقصفون بمدافع دباباتهم مبني القيادة المواجه لثكنات الفرسان. اضطر عبد الناصر الذهاب إلى ضباط سلاح الفرسان، فأكدوا له أنهم مع مطالب الشارع الذي يدعو لعودة نجيب والانتهاء من الدستور.
قام الصف الثاني من "الضباط الأحرار" بمحاصرة قيادة سلاح الفرسان ومجلس قيادة الثورة، وقام سلاح الطيران بعمل طلعات فوق سلاح الفرسان دون اشتباك، فتم التراجع عن تلك القرارات، وكان الحل الوسط هو تدارك مظاهر الخلاف بين ناصر ونجيب.
في صباح السبت 27 فبراير توجه عبد الناصر وبرفقته خالد محيي الدين الي سلاح الفرسان حيث اعلن علي الضباط المجتمعين القرارات التي اتخذها مجلس الثورة وهي: حل مجلس قيادة الثورة وعدم عودة اعضائه الي صفوف الجيش، اعادة محمد نجيب رئيسا لجمهورية برلمانية، تعيين خالد محيي الدين رئيسا لوزارة مدنية علي أن يعيد الحياة النيابية في اقرب وقت ممكن، استقالة عبد الحكيم عامر القائد العام من منصبه وترك الحرية لخالد محيي الدين لتعيين قائد عام بدلا منه. وتوجه خالد محيي الدين وبرفقته ثلاثة من الضباط الي دار محمد نجيب في الزيتون حيث أيقظه من نومه وأبلغه بقرارات مجلس الثورة. وحمل هذا اليوم أهم لحظة كانت ستنقل مصر إلى الديمقراطية، لو قُدِّر لها النجاح.
عمت التظاهرات مصر يوم 28 فبراير ابتهاجا بعودة نجيب، والهتاف ضد مجلس قيادة الثورة، فوقعت اشتباكات مع البوليس الحربي، الذي أطلق الرصاص على المتظاهرين وأصاب بعضهم، إلا أن المتظاهرين تمكنوا من الوصول إلى قصر عابدين وطالبوا بسجن عبد الناصر وصلاح سالم، وحينها أدرك عبد الناصر ضرورة التخلص من نجيب والمعارضة المدنية. وتوقفت الدراسة في جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية لمدة أسبوعين.
في 5 مارس أصدر مجلس قيادة الثورة مجموعة من القرارات الهامة: ألغيت الرقابة على الصحف، واتُخذت إجراءات لبدء عقد جمعية تأسيسية منتخبة بطريق الاقتراع العام المباشر تجتمع في يوليو، لتباشر مهمتين: مناقشة مشروع الدستور الجديد، والقيام بمهمة البرلمان إلى حين انتخاب برلمان جديد. وفي 8 مارس، قرر مجلس قيادة الثورة عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل أحداث فبراير، ليترك ناصر رئاسة مجلس الوزراء ويتولاها نجيب مرة أخرى. وكانت تلك الإجراءات تسير بقوة دفع شعبية، عقب تراجع الجناح الظلامي والرجعي داخل مجلس قيادة الثورة.
كانت عودة نجيب للحكم وسيلة المجلس للتخلص منه. في 25 مارس اجتمع المجلس بقيادة ناصر وتم الاتفاق على اقتراحه بحل مجلس قيادة الثورة وألا يكون له حزبا، واعتبار أن الثورة قد انتهت، والموافقة علي حرية تكوين الأحزاب، وإجراء انتخاب جمعية تأسيسية لها سُلطة البرلمان لاختيار رئيسا للجمهورية فور انعقادها. كانت تلك القرارات هي الستار لرغبة عبد الناصر في إيهام الشعب أن الثورة قد انتهت وإثارة المخاوف في نفوسهم من عودة البلاد لماضي ما قبل الثورة وعودة الفساد، وإثارة الغضب بنفوس الضباط حيث أنه إذا تحققت الديموقراطية سوف يخسرون مناصبهم وامتيازاتهم الجديدة.
كانت القرارات توحي بانتصار الديمقراطية، لكن عبد الناصر ورفاقه أرادوا بها سكب الزيت على النار. في 28 مارس كان خروج الشعب واعتصام العمال بتخطيط من المخابرات الحربية وعبد الناصر بالذات رافقين شعار«لا للديمقراطية» لينجحوا في الإضراب والاعتصام الأضخم منذ ثورة 1819م. كانت المنشوات تطبع بهيئة التحرير وتوزع علي مختلف الأفراد، إضافة لوجود تابعين لعبد الناصر في كل الأماكن للتحريض علي المطالبة ببقاء الثورة وأن الديمقراطية لم يحن أوانها، وتهتف باسم جمال عبد الناصر، فجاء مساء 29 مارس ليسدل الستار على أهم منعطفات مصر في تاريخها، ويتم إصدار قرار بتأجيل قرارات 5 و25 مارس إلى حين انتهاء الفترة الانتقالية في يناير 1956م، واستمر التأجيل لأعوام طوال، لتتحول الديمقراطية إلى صفعة علي وجه نجيب وأنصاره.
كان محمد نجيب مازال رئيسا للجمهورية بلا سلطات عملية تقريبا حتى يوم حادث المنشية (26 اكتوبر 1954م)ً، ينوب عنه في الغالب ويحضر مقابلاته حسن ابراهيم وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية. جاءت محاولة اغتيال عبد الناصر على يد جماعة «الإخوان المسلمين»، وما أشارت إليه التحقيقات وقتها، من وجود اتصالات بين نجيب وقيادات إخوانية لا تستبعد تأييده مساعيهم لقلب نظام الحكم، لتصعد بمستويات الصراع إلى ذروته. في يوم 14 نوفمبر 1954م توجه محمد نجيب إلى مكتبه، فوجد عدداً من ضباط البوليس الحربي أمام قصر عابدين، ولما اتصل بجمال عبدالناصر مستفسراً عما وراء ذلك لم يتلق ردا، ثم حضر إليه بعد فترة قصيرة عبد الحكيم عامر وحسن ابراهيم ليبلغاه أن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءه من منصبه. وذهب الاثنان معه إلى حيث حُددت إقامته، في فيلا صغيرة، كانت تملكها السيدة زينب الوكيل بالمرج شمال القاهرة. وصدر في اليوم نفسه قرار بإعفائه من جميع مناصبه التي كان يشغلها، كما تقرر أن يبقى منصب رئاسة الجمهورية شاغراً. وأن يستمر مجلس قياد الثورة في تولي جميع السلطات بقيادة جمال عبد الناصر، حتى تولى الأخير منصبه كثاني رئيس للجمهورية بموجب استفتاء شعبي أُجري في 24 يونيو 1956م.