عاطف بشاي
يرصد الأديب والناقد الكبير الراحل «رجاء النقاش»، فى كتابه الممتع «عباقرة ومجانين»، سيرة (36) من العباقرة والمجانين الذين أثروا الحياة الفكرية والأدبية والفنية والعلمية وتركوا آثارًا واضحة فى تاريخ الفكر الإنسانى بأسلوب رشيق ذى جاذبية لافتة تميز أسلوبه الفيّاض بالعذوبة والسلاسة وبمزيج مدهش من السرد التوثيقى لرحلة هؤلاء العباقرة الذاتية التى تشمل سلوكهم الحياتى ومشاعرهم الخاصة وحياتهم الاجتماعية العاصفة ونوازعهم النفسية المتناقضة وطموحاتهم ومشاربهم وأطماعهم وزلاتهم ونزواتهم.. وترفُّعهم وسمو مقاصدهم.. واضطراب عواطفهم.. وعذاب حيرتهم.. وتصادم أحلامهم المستحيلة بواقعهم الضنين.

ويقول «رجاء النقاش»، فى مقدمة الكتاب، إن منهجه يقوم على أساس سياحة روحية متنوعة فى الحياة والفن والتاريخ لكشف جهود هؤلاء العباقرة المجانين من أجل الوصول إلى الخير والسعادة والجمال.. والإنسان فى كل هذه الجهود يصيب مرة ويخطئ مرة أخرى.. ويضع يده على الينابيع الصافية مرة.. ويسبب لنفسه ولغيره الألم والعذاب مرات ومرات.. والحياة مع كل ذلك تمضى والإنسان يفرح ويحزن والمثل الأعلى للسعادة مطلوب فى كل الأحوال، حتى وإن لم يتحقق بصورته الكاملة فى جيل من الأجيال.. ويفسر «رجاء» سبب اختياره «عباقرة ومجانين» عنوانًا للكتاب، موضحًا أن بين العبقرية والجنون خيطًا رفيعًا.. فالعبقرية استثناء وخروج على المألوف.. ولكن العبقرية تبنى وتضيف عناصر إيجابية إلى حياة صاحبها وحياة الناس.. ولعلنا بالفهم والمعرفة الصحيحة نستطيع أن نقف فى وجه الجنون وما يترتب عليه من سلبيات ونستطيع أيضًا أن نستفيد من العبقرية ونتعلم منها ونستنير بما تقدمه من أفكار وأضواء جديدة على مشاكل الإنسان والحياة..

و«رجاء النقاش» فى عرضه الشيق لحياة هؤلاء العباقرة يفتش فى إنتاجهم الإبداعى وفى أغوار نفوسهم المُعانِية، فيستخرج اللآلئ النفيسة والجواهر النادرة فى أعماق ذواتهم المتفجرة بالعطاء وتلك الكنوز التى تبرز وتجسد عبقريتهم ونبوغهم دون أن يغفل عثراتهم وعوراتهم التى غيّرت مساراتهم وعصفت بحياتهم وربما دمرتهم وقضت عليهم.. لكنه فى النهاية لا يحاكمهم ولا يصدر فرمانات تجريمهم أو مسوغات إدانتهم أو ينبش فى ضمائرهم ليكشف أسرارًا تشِى بانحرافات خلقية أو آثام شخصية تمثل فضائح مسيئة يسعى من خلالها إلى سبق مثير أو استنتاج خبايا تثير الجدل، بل على العكس هو يحترم ضعفهم الإنسانى ويحلل دوافعهم التى يبرر بها سلوكهم الغريب وينتصر لمواقفهم المضيئة وآثارهم الجليلة.

فى فصل من الكتاب بعنوان «العقاد والأستاذ بيجو»، يتناول «رجاء النقاش» جانبًا مهمًا لم يتطرق إليه أحد من قبل- باستثناء بعض الإشارات، التى أوردها أنيس منصور فى كتابه «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»- وهذا الجانب الجديد يتصل بشخصية العقاد، التى يبدو فيها إنسانًا صارمًا حازمًا جادًا لا يعرف الابتسام أو المرح أو العواطف الجيّاشة، فهو فى نظر الكثيرين رجل من رجال العقل الذين لا يعرفون المشاعر الفيّاضة والوجدان المُتَّقِد، فقد عاش حتى سن الخامسة والسبعين دون أن يتزوج وقضى حياته الطويلة وحيدًا فى منزله، الذى تحول إلى مكتبة كبيرة يعيش فيها دون أن يشاركه فى ذلك سوى كتبه.. وكان فى كتاباته صارمًا حادًا وأحيانًا كثيرة عنيفًا حينما يدخل فى سجال فكرى مع آخرين أو معركة أدبية له فيها وجهة نظر مختلفة.. لكن «رجاء النقاش» يؤكد أن تلك الصورة الخشنة «للعقاد» لم تكن حقيقية، فقد كانت له صورة أخرى كامنة فيه يحاول أن يخفيها كثيرًا ولكنها تظهر بين الحين والحين فى كتاباته وتصرفاته وطريقة حياته.. وقد عرف العقاد الحب مع «سارة» و«مى زيادة» و«مديحة يسرى» وخفق قلبه بالسعادة والبهجة كما تجرع ألم الوجد وعذاب الفراق.

وقد اعترف العقاد أن عنده من رسائل «مي» وعندها من رسائله ما يصلح كتابًا يصور تلك العلاقة المشبوبة القائمة على الحب المتبادل.. وعند رحيلها خاطبها أمام قبرها والحزن يعتصره والدموع تنهمر من عينيه بواحدة من أجمل قصائده وأصدقها وأكثرها بلاغة وأنبلها شعورًا. مطلعها: «أمى فى التراب/ أين فى المحفل (مى) يا صحاب؟!..».

وفى مفارقة مدهشة تمثل رهافة وشفافية قلبه الرقيق المفعم بالحب أنه كتب قصيدة رثاء لكلبه «بيجو»، وفيها يتأكد لنا- كما يرى «النقاش»- أن عاطفة «العقاد» تجاه هذا الكلب عميقة.. وأن حزنه عليه وتأثره لفراقه يزيدنا معرفة بالجانب الإنسانى فى شخصية «العقاد».. والرثاء ينطلق بنا إلى آفاق نفسية عجيبة، حيث حزنه شديد الحرارة والمرارة.. وهو يصور لنا فى قصيدته أنه كثيرًا ما يستغنى بكلبه عن التماس الأمان والصدق فى الناس.. وكان يجد فيه مؤنسًا لوحدته التى فرضها على نفسه ليقرأ ويكتب ويتأمل.. إن «العقاد» يتحسر فى قصيدته حسرة حقيقية على كلبه الوفىّ، فيقول:

حزنًا على «بيجو» تفيض الدموع/ حزنًا على «بيجو» تثور الضلوع/ إن حزنًا بعده ذاك الولوع/ والله يا «بيجو» لحزن وجيع.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم