في مثل هذا اليوم 1 اكتوبر1970م..
مسيرات النصر قد تكون خادعة، تحمل بين تفاصيلها كثيرا من المجاملة وكثيرا من المراوغة والتصنع. ولكنها الجنازات، هى وحدها التى تكشف وبصدق شديد ودون أى مواربة عن الحقيقة، وتحسم بشكل قاطع كل خلاف وجدل. وهكذا كانت الجنازة الأسطورية التى تم خلالها تشييع جثمان الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر. لخصت الجنازة ما كان من صدمة الأمتين المصرية والعربية، والهزات التى ضربت العالم إزاء زعيم استثنائى.

جنازة ناصر تشابهت بدقة مع صاحبها، فقد كانت استثنائية فى جميع ملامحها، ما بين ضخامة الحشود التى شاركت بها من بين النخبة العالمية التى توجهت صوب القاهرة لتشارك فى تشييع ناصر، ومابين المساواة الواضحة والنادرة ما بين النخبة والعامة فى إظهار أمارات الحزن وعلامات الصدمة أمام الفقد العظيم. وما بين انفراطها إلى عشرات الجنازات التى توزعت بمحافظات مصر ومدن العالم العربي، وحتى عواصم الغرب التى خرجت الجاليات المصرية والعربية بها فى جنازات قد تقل فيما يخص حجم الحشود عن الجنازة القاهرية، لكنها حتما لم تقل حزنا. تتبع ملامح جنازة ناصر، تطلب تصفح أعداد نهايات سبتمبر وبدايات أكتوبر لعام 1970 لأغلب الصحف والمجلات التى صدرت فى مصر خلال هذا العهد، وكانت الحصيلة مليئة بالتفاصيل التى تؤكد ألف حقيقة حول الأحوال السياسية والاجتماعية فى مصر وقتها، والدور المحورى لمصر إقليميا ودوليا. وتؤكد أيضا زعامة ناصر، التى ظلت جنازته، ورغم مرور خمسة عقود ومرور العديد من الجنائز، محتفظة بطبيعتها الاستثنائية.

كانت «مانشيتات» الصحافة المصرية التى أذاعت الخبر الحزين، قوية تحمل الكثير من مضمون جلال الحدث. فخرجت الأهرام بتاريخ 29 سبتمبر 1970 بالمانشيت الحزين «عبدالناصر فى رحاب الله» وتحتها، جاءت سلسلة من العناوين الفرعية التى صاغها « أهرام» محمد حسنين هيكل كالتالي: «البطل والزعيم والمعلم يسلم الروح فى الساعة السادسة والربع بعد نوبة قلبية حادة/ بيان من اللجنة التنفيذية العليا وجلس الوزراء ينعى الشهيد العظيم إلى مصر والأمة العربية/ جماهير الشعب تخرج إلى الشوارع باكية والهة بعد دقائق من إذاعة النبأ الرهيب/ جنازة البطل تشيع يوم الخميس 10 صباحا لإفساح الفرصة لأصدقائه فى العالم لحضورها». أما « الأخبار»، فاعتمدت فى المانشيت يومها صيغة « الإيجاز المؤثر» بعنوانها: « فقدنا عبدالناصر»، ونافستها»الجمهورية « بمانشيت: «الخلد لك يا ناصر».

ثلاثة أيام كاملة فصلت ما بين إذاعة الخبر الحزين وما بين وقائع الجنازة فى الأول من أكتوبر. الجنازة التى وصفتها الصحافة البريطانية بأنها « أكبر تجمع بشرى فى التاريخ» وتناقلت وسائل الإعلام فى هذا الحين تقدير أعداد المشاركين بما لا يقل عن 6 ملايين مواطن، فضلا عن قيادات العالم والوفود الممثلة لأكثر من 50 دولة. لكن كيف تجمعت عناصر الحشد العظيم فى وداع ناصر؟ وكيف باتت جنازته « الأكبر فى تاريخ البشرية» حسب شهادة الإنجليز وقتها. الإجابة فى السطور التالية:

العالم يتجه إلى القاهرة:
بخلاف الصورة المؤثرة والصادقة للزعيم الليبى الراحل معمر القذافي، الذى ظهر على الصفحة الأولى للأهرام باكيا وبحرقة، تضمن عدد «الأهرام» الصادر فى صباح يوم الجنازة، عددا من الحقائق التى أسهمت فى إعداد أكبر جنازات القرن العشرين. فمن جانب، كانت حالة الطوارئ غير المسبوقة التى شهدتها شركة «الخطوط الجوية العربية» كما كان يطلق عليها وقتها، والتى تشابه حالات الطوارئ فى أوقات الحرب. فقد أعلنت الشركة وقتها تحويل جانب كبير من رحلاتها إلى شركات طيران أخري، مع زيادة الضغوط على رحلات الشركة المتجهة إلى القاهرة للمشاركة فى الجنازة.

وتقاطر طائرات المعزين على القاهرة، كان يتقدمها تلك التى أقلت قيادات العالم وفى مقدمتهم قيادات عربية مثل الزعيم الراحل ياسر عرفات، الذى كان وقتها رئيس اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، و الشيخ عيسى بن سلمان خليفة، حاكم البحرين، و أعضاء الوفد السورى يتقدمهم وزير الدفاع وقتها حافظ الأسد، وحردان التكريتي، نائب رئيس العراق وقتها، يرافقه وفد رفيع المستوي. أما الوفد اليمني، فتمثل يومها فى القائد عبدالرحمن الأرياني، رئيس المجلس الجمهوري، والذى تولى ذلك المنصب حتى 1974. ولكن وصول الأريانى تحديدا كان يخالف وصول أى زعيم آخر، فقد هبطت الطائرة المقلة للوفد اليمنى كانت تتشح بالسواد وتعلوها الأعلام السوداء. أما الوفد الأمريكى المشارك، فقد كان يترأسه، والعهدة على الأهرام، إليوت ريتشاردسون، الذى شغل منصب النائب العام الأمريكى فى السبعينيات. وتمثل الوفد البريطانى فى اعضاء بحزب العمل يتزعمه جورج براون.

ومن آسيا، كانت وفود ممثلة لنحو عشر دول، بينها الهند وباكستان وأفغانستان وإيران. ومن إفريقيا، كانت وفود من 20 دولة، بينهم الصومال ومالى وموريتانيا وإثيوبيا وإفريقيا الوسطي.

خط سير جنازة القرن:
الجنازة التى نقل وقائعها التليفزيون المصرى من ثلاثة مواقع رئيسية: ما كان يعرف بمبنى «الاتحاد الاشتراكي»، وميدان رمسيس، ومسجد عبدالناصر، اتخذت خط سير يبلغ 14 كيلو مترا من أمام مجلس قيادة الثورة، وحتى مسجد عبدالناصر، الذى أشرف الرئيس الراحل بنفسه على تشييده بمنطقة كوبرى القبة. وتشاء الأقدار أن يشهد تشييع جثمان ناصر، قبل الافتتاح الرسمى له والذى كان مقررا له على أيدى الرئيس الراحل خلال شهر رمضان من عام 1970.

اتخذت الجنازة طابعين، أحدهما رسمي، سار من مقر مجلس قيادة الثورة، بمشاركة النخبة الممثلة لدول العالم. والثاني، كان الطابع الشعبي، الذى ضم طوفان الحب الإنسانى من مشيعين، تؤكد الصحافة المصرية أنهم رابطوا حول مقر قصر القبة طوال الأيام الثلاثة الفاصلة ما بين إعلان الوفاة وتشييع جثمان ناصر، حزنا ولوعة على صاحب الجثمان المسجى داخل العيادة الخاصة بالقصر طوال هذه الأيام. وشهدت الجنازة الشعبية مشاركة كثيفة من وفود ممثلة للنقابات العمالية والمهنية ووفود من كل محافظات الجمهورية، وتسير أفواج المواطنين مع الجنازة حتى نفق العباسية.

توثيق هذا المسار الجنائزي، أبدعت فيه مجلة «المصور»، التى كانت وقتها تحت قيادة الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين. ففى العدد الصادر بتاريخ 2 أكتوبر، جاء عدد تذكارى تحت عنوان «أعظم الشهداء»، أشارت فيه إلى العمل المتواصل الذى بذله ناصر بلا نوم تقريبا ولمدة عشرة أيام لإيقاف ما كان من وقائع مذبحة الأردن. ووصف ذلك العدد، المصحوب بصور لا تتكرر لمشاعر التأثر واللوعة فى أوساط المصريين طوال الأيام التالية على إعلان الوفاة، وحتى تشييع الجنازة، ردة فعل مواطنى مصر بأنها « أحزان الشعب الوفي». وتعكس الصور مختلف طبقات الشعب ممثلة فى الجنازة، تمثيلا صادقا.

جنازة تنفرط جنازات:
جنازة القاهرة فى الأول من أكتوبر، قد تكون الأشهر، لكنها لم تكن الاوحد التى خرجت فى وداع ناصر. فوفقا إلى الأهرام، أن محافظات مصر كلها، ودون استثناء شهدت فى اليوم ذاته، خروج « جنازات حاشدة» بمختلف مدنها وقراها، وإن كان لعاصمة كل محافظة النصيب الأكبر. على أن تلتزم كل جنازة بتوقيتات «الجنازة الأم»، فى القاهرة، وتنتهى إلى المسجد الرئيسى فى كل عاصمة، لأداء شعائر صلاة الجنازة والدعاء ترحما على الفقيد.
وتلك الجنازات المصغرة لم تكن أيضا وحدها. فقد خرجت جنازات أخرى فى مختلف العواصم العربية والعالمية أيضا. ففى الهند، كما أوردت تغطية الأهرام، تم إعلان الحداد ثلاثة أيام كاملة، فيما استقبلت السفارة المصرية هناك الزعيمة أندريا غاندي.!!