الأنبا إرميا
أود أن أهنئ المِصريين جميعًا بالعيد الثامن والأربعين لنصر أكتوبر المجيد الذى نحتفل به اليوم. نضرع إلى الله أن يمُنّ بالخير والسلام على المِصريين جميعًا، ويرفع الوباء عن بلادنا المحبوبة «مِصر» وعن سائر العالم.
إن أكتوبر المجيد هو إحدى المحطات المهمة فى التاريخ المِصرىّ؛ إذ تجلى فيه التحام الشعب بالجيش، فى إرادة لا تهدأ، وعزيمة لا تتزعزع، لأجل العبور ببلادنا من كبوتها ومحنتها آنذاك، وقد تحقق لـ«مِصر» ما أرادت. ومنذ أن عرَفت البشرية معنى «الوطن»، والمِصريون يخُطّون بدمائهم انتصارات على صفحات تاريخهم العريق، تُعلِّم العالم معنى «محبة الوطن».
إن محبة الوطن أساس تكوين الشخصية المِصرية، والشعب المِصرىّ من أوائل الشُّعوب التى عرَفت معنى الوطن الواحد، على ضفاف نهره الخالد الذى تنساب مع مائه تيارات محبة الوطن فى شِريان كل مِصرىّ. وحين نتحدث عن الوطن، تقفز إلى الأذهان كلمات مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث: ««مِصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطنًا يعيش فينا»؛ نعم، فـ«مِصر» هى الوطن الذى يعيش فى أعماق كل مِصرىّ أينما كان فى أىّ بقعة من العالم. إن محبة المصرىّ لبلاده أنشد فيها الأستاذ «مصطفى صادق الرافعى»:
بِلَادِى هَوَاهَا فِى لِسَانِى وَفِى دَمِى
يُمَجِّدُهَا قَلْبِى وَيَدْعُو لَهَا فَمِـى
وَلَا خَيْرَ فِيْمَن لَا يُحِبُّ بِلَادَهُ
وَلَا فِى حَلِيفِ الْحُبِّ إِنْ لَم يُتَيَّمِ
وعن عمق هذه المحبة واحتلالها مركز الانشغال الأول فى قلب المِصرىّ، عبّر أمير الشعراء «أحمد شوقى» بلآلئ كلماته الخالدة:
وَطَنِى لَوْ شُغِلْتُ بِالْخُلْدِ عَنْهُ
نَازَعَتْنِى إِلَيْهِ فِى الْخُلْدِ نَفْسِى
إنه وطننا الذى جذب إليه قلوب كثيرين فتمنَّوا أن تطأ أقدامهم أرضه. أتذكر فى لقاء لى مع أحد الأطباء الأمريكيين بـ«الولايات المتحدة الأمريكية»، أنه سألنى: ما وطنك؟ فأجبته: «مِصر». وما إن سمِع الطبيب كلمة «مِصر»، حتى انخرط فى حديث طويل عنها، قائلاً إن زيارة «مِصر» تُعد إحدى أمنياته التى لطالما رغِب فى تحقيقها فى رحلة حياته، وأنه يود لو يتلامس مع الحضارة المصرية العريقة بزيارته للأهرام والمعابد المِصرية القديمة. ومما لا أنساه من حديثه: فى «مِصر»، أنت فى رحلة تعبر التاريخ!، ترى وتتأمل أمجاد الحضارة العظيمة التى شيدها القدماء وقدموها للعالم، وهى لا تزال واقفةً بإباء وشموخ، تترنم بأمجاد المِصرى القديم!. وهنا أتذكر كلمات الشاعر:
لَعَمْرُكَ مَا مِصْرُ بِمِصْرٍ وَإِنَّمَا
هِىَ الْجَنَّةُ الْعُلْيَا لِمَنْ يَتَفَكَّرُ
وَأَوْلَادُهَا الْوِلْدَانُ مِنْ نَسْلِ آدَمَ
وَرَوْضَتُهَا الْفِرْدَوْسُ وَالنِّيلُ كَوْثَرُ
وتقدم لنا صفحات التاريخ ما حققه رجال «مِصر» من القوات المسلحة من بطولات شهِد لها العالم بأسره؛ فنقرأ كلمات وزير الدفاع الإسرائيلىّ «موشى ديان» عن أبطال مِصر: «إن المِصريين يملكون كثيرًا من المدرعات، وهم أقوياء.. وقد ركزوا قواهم طوال السنوات الماضية فى إعداد رجالهم لحرب طويلة شاقة، بأسلحة متطورة تدربوا عليها واستوعبوها تمامًا». وفى الندوة الدولية عن «حرب أكتوبر»، التى أقيمت بـ«القاهرة» فى أكتوبر ١٩٧٥م، يذكر المؤرخ العسكرى الأمريكى «تريڤور دپوى Trevor Dupuy» رئيس «مؤسسة HERO للتقييم العلمىّ للمعارك التاريخية» بواشنطن، عن براعة المِصريين فى التخطيط والتنفيذ فى «حرب أكتوبر».
فيقول: «إن كفاءة الاحتراف فى التخطيط والأداء الذى تمت بها عملية العبور لم يكُن ممكنًا لأىّ جيش آخر فى العالم أن يفعل ما هو أفضل منها!!، ولقد كانت نتيجة هذا العمل الدقيق من جانب أركان الحرب ـ وعلى الأخص عنصر المفاجأة التى تحققت ـ هى ذلك النجاح الملاحظ فى عبور «قناة السويس» على جبهة عريضة». ولا شك أن البطولات المِصرية التى شهِد لها العالم تتدفق من محبة الوطن التى تحيا دائمًا فى أعماقنا، المحبة التى تتجلى اليوم فيما تشهده بلادنا حاليًّا على طريق بناء «مِصر الجديدة».
تحية تقدير إلى أبطالنا من رجال القوات المسلحة فى ذكرى انتصاراتهم، وتحية خاصة إلى أسر الشهداء الذين قدموا حياتهم فداءً للوطن، وإلى كل بطل شارك فى تحقيق النصر. حفِظ الله «مِصر» وصانها من كل شر. و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم