سحر الجعارة
لعل أول دلالة سياسية ثقافية للملبس قد ظهرت مع موضة «الكاروه» الأبيض بأسود، تلك الموضة التى ظهرت أول ما ظهرت كدلالة على أن مرتديها ليس عنصرياً، وقد بدأت بيوت الأزياء الأمريكية إنتاجها لمواجهة العنصرية والتمييز على أساس اللون، وكان التمييز يجتاح أفريقيا آنذاك.
من هنا بدأ العالم ينتبه لدلالة الملابس وما تكرسه من انطباع عام عن الآخرين، فحين خرج الرئيس الأمريكى الأسبق «بيل كلينتون» على وكالات الأنباء مرتدياً «الكيباه» وهى الطاقية التى يرتديها عادة المتدينون من اليهود، أبرزت وكالات الأنباء صورته هذه باعتبارها إعلاناً عن تعاطفه مع اليهود وتأييداً ودعماً لقضايا إسرائيل ومواقفها.
يتغير الرئيس الأمريكى ولا تتغير ردة فعل العالم الذى أصبح قرية صغيرة تشاهد الصور فى توقيت واحد، «باراك أوباما» يرتدى «الكيباه» خلال فترة المفاوضات الأمريكية الإيرانية بشأن الاتفاق النووى الإيرانى.. ثم يتكرر المشهد مع «دونالد ترامب» الذى ارتدى القلنسوة اليهودية برفقة ابنته «إيفانكا ترامب» وقاما بالصلاة فى مدينة القدس القديمة أمام «حائط المبكى».. هذه المرة كانت «طاقية إيفانكا» هى محل الأنظار وقبلة الكاميرات والصحافة التى أبرزت خبر اعتناقها لليهودية بعد زواجها من جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأمريكى.
خلال نفس المرحلة لم يتخلَّ القادة العرب عن الرسائل المشفرة وتقديم دلالة سياسية للملابس: كان الرئيس الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات» يصر على الظهور بالملابس العسكرية، فى رسالة سياسية عن عدم استقرار عملية السلام بعد، واستمرار الثورة -كما كان يحب أن يسميها- وإن كان يتوافر لدىّ صورة نادرة لأبو عمار مرتدياً «بيريه فرو»، الأرجح أنه تونسى، حيث كان مقر منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس آنذاك، (التُقطت هذه الصورة أثناء حوار صحفى أجريته معه عام 1990 بالقاهرة)، وهذه اللقطة تسجل مرة من المرات النادرة التى تخلى فيها الرئيس الفلسطينى عن «الغترة» وهى الكوفية البيضاء المقلمة بالأسود التى كان يضعها على رأسه بشكل دائم كرمز لثقافة المقاومة، وكانت الكوفية مقرونة بالفدائى وسلاحه، وكانت توضع لإخفاء ملامح الفدائى. ونتيجة لذلك أصبحت تلك الكوفية رمزاً وطنياً لنضال الشعب الفلسطينى فى المحافل الدولية.
وهناك أيضاً «وشاح القضاة» الذى كان الرئيس الراحل «أنور السادات» يزين به ملابسه العسكرية كدلالة على عدالة الحكم.
أما الرئيس الليبى الراحل «معمر القذافى» فكان يضع فى آخر مراحل حياته العباءة التقليدية الشهيرة التى كان يرتديها المناضل الليبى «عمر المختار»، فكان يضعها فوق حلته التى عادة ما كان يختارها من أشهر بيوت الأزياء العالمية.. ووضع العباءة فوق البدلة العصرية كان مغزاه استمرار حالة «النضال الوطنى» التى كان يعتقد أن ليبيا تعيشها.
الرسائل السياسية لا تتجلى فقط فى المستحدثات من الموضة، ولكنها أيضاً تتحكم فى إفرازها وإنتاجها، ومن خلال متابعتى المتأنية لانتشار ظاهرة ارتداء «الجلابية» للرجال و«الحجاب» للسيدات فى المجتمع المصرى، واستخدام الحجاب كرمز سياسى فى الانتخابات النيابية والنقابية أعتقد أنه الزى الأجدر بالدراسة والتحليل.
اعتقد البعض فى بداية ظهور الحجاب فى الجامعات أنه «المعادل الموضوعى للجينز»، وهو تفسير لا يحتمل شبهة الدعابة وإن كان يحمل نكهتها، فالجينز كزى عملى استطاع فى أوروبا أن يلغى -إلى حد ما- الفوارق الطبقية، خاصة فى مجالى الدراسة والعمل.. لكن بعد ثورة 25 يناير اكتشفنا أن هذه «الطرحة» كانت جسراً لاستيلاء الفاشية الدينية على الحكم.. الآليات الاقتصادية للحجاب وإعلامه ومروجيه وفتاواه: (فى العدد القادم: الحجاب من بنازير بوتو إلى حلا شيحة).
نقلا عن الوطن