محمود دوير
أسدل الستار على الدورة الخامسة لمهرجان “الجونة ” السينمائي وهي ما يمكن أن نطلق عليها دورة “الأزمات” حيث شهد المهرجان عدة أزمات قبل بدايته عندما نشبت خلاف بين الفنانة يسرا ومدير المهرجان “انتشال التميمي” على خلفية تكريمها من عدمه وتم حسم الأمر بتكريم “أحمد السقا” ونجح مسؤول المهرجان في احتواء غضب يسرا. ثم جاء حريق جزء من المسرح لكن الأزمة الأهم كانت تلك التي أحاطت بعرض فيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري خلال المسابقة الرسمية للمهرجان.
جاء الفيلم يحمل ريشة تكريمه في مهرجان “كان” السينمائي كأول فيلم روائي طويل في تاريخ السينما المصرية يحصل على تلك الجائزة – أحسن فيلم – كان الراحل الكبير يوسف شاهين قد حصل على جائزة اليوبيل الفضي لكان عام 1983.
جاء “ريش” طائرا إلى الجونة بحثا عن تكريم يستحقه على أرض وطنه وفى مهرجان يعلن منذ بدايته انحيازه للسينما الإنسانية. فإذا بعاصفة تنطلق من قاعة العرض تستهدف هذا الريش المتماسك فنيا في محاولة للنيل من العمل مستخدمة ذات التهم “المُعلبة ”
وخرج عدد من صناع الفن لينالوا من العمل بشكل يعيد للأذهان تلك الحملة التي تعرض لها يوسف شاهين بعد فيلم “القاهرة منورة بأهلها ” ثم فيلم “هي فوضى ”
بل إن تاريخ استخدام تلك التهمة “الإساءة لسمعة مصر” طويل هذا الذى دفع كاتب بحجم وحيد حامد أن يشير إلى تلك الحالة القائمة في كل العصور ومع كل الأنظمة في فيلم “احكى يا شهرزاد ” الذى أخرجه يسرى نصرى الله وجاء الاستياء على لسان بطلة الفيلم من تكرار “اكلاشيه” سمعة مصر، وكأن مصر دولة صغيرة قد تتضرر سمعتها المستقرة والثابتة منذ ما يزيد على سبعة آلاف عام.
لكن بعيدا عن كل ذلك الصخب ضد الفيلم والذي أحدثه عدد من العاملين بالفن فقد جاء رد مسؤول مبادرة “حياة كريمة” جامعا مانعا كاشفا عن وعي بمحاولات إقحام السلطة في أزمة فنية لها دوافع أخرى بعيدة عن كل ما يردده.
إن تقييم أي عمل فنى يخضع لأدوات فنية نقدية علمية بالإضافة تحكمها ذائقة كل متلقٍ وفقا لثقافته ورؤاه وإنحيازاته الفنية والفكرية هذا ما يجعل الاختلاف حول الفنون أمرا صحيا للغاية لكن الأخطر على صناعة السينما المصرية – التي تعانى من أزمة غير مسبوقة – هو أن تجر نحو شطوط غير آمنة مثل التشكيك في الوطنية بغية مغازلة السلطة أو التشكيك في الإيمان بغية مغازلة المتشددين ويظل كلا الأمرين خطرا على حرية الإبداع .
رغم كل ذلك الهجوم والتصعيد القانوني والاستعداء الشعبي ضد “ريش” إلا أن لجنة التحكيم لم تلفت لهذا ومنحت الفيلم جائزة افضل فيلم عربي في المسابقة الرسمية.
لتَشحب الوجوه التي جلست في الصفوف الأولى تنتظر عكس ذلك … وتسيطر الدهشة على ملامح الكثير من الذين انهالوا على الفيلم وحتى هؤلاء الذين كبتوا غضبهم منهم.
ويبدو أن الأمر ليس كذلك بالضبط وهذا ما كشفت عنه الإعلامية “بوسي شلبي” أثناء حوارها مع عدد من أبطال الفيلم فقد كشفت – دون أن تتعمد – أو تفصح عن قدر كبير من التعالي في التعامل مع هؤلاء النجوم الذين كرمهم مهرجان كان ثم يكرمون في الجونة، وأعتقد أن مشاعر “بوسى” كانت تعبير عن مشاعر عدد كبير من رواد الجونة وسكانها من أهل الفن.
كان التعالي الذى ظهر من الإعلامية بوسي شلبي مؤكداً لاستنتاجات من بينها أن الفيلم أستطاع أن يكشف عوراتنا الفنية قبل أن يكشف عورات الفقر والحاجة والتردي الاجتماعي.
فقد كشف أننا أمام نخبة فنية – إن جاز التعبير – يعاني بعضها من نرجسية -ودون داعي – وأن تلك النرجسية قد سيطرت على صناعة الفن في مصر ولم يعد مسموحا أن يخترقها أحد وتشابكت علاقات الإنتاج –الخاص – مع سيطرة عدد من “نجوم الشباك ” وعدد من المخرجين المقربين على سوق الصناعة بل على الصناعة نفسها فحل عليها الانهيار والتردي كما نرى.
وتراجع عدد الأعمال المقدمة سنويا إلى أرقام مخجلة ولا تليق بسمعة مصر الفنية التي يتشدقون بها أمام الكاميرات.
تلك الشللية القاتلة أغضبها طيران “ريش” خارج السرب نحو كان وعودته بجائزة كبرى لم ولن يتمكن نجوم الصف الأول والأجر الأعلى من تحقيق هذا الإنجاز.
لأنهم يفتقدون القدرة على الحلم وليس لديهم مشروع فنى مغاير فقط هم يقبضون على مقاعدهم الوثيرة في قاعات اتخاذ القرار الفني المصري ..
وهذا أمر شديد الضرر بالصناعة وبسمعة مصر ونفوذها الفني …
جاء فيلم “ريش” ومن قبله فيلم “ستاشر” ليكشفا عن ضعف ما يقدمه صناع السينما وغيابه عن الواقع ويؤكدان أن العمل الناجح والجيد ليس بالضرورة الذي يقوده ممثل يتجاوز أجره 50 مليون جنيه ” هذا المبلغ الذي يمثل فى بعض الأحيان 80% من إجمالي ميزانية العمل”
أو نجمة تشترط أن تظهر في جميع المشاهد وأن تكون بكامل مكياجها حتى وهي في غرفة العمليات ومن ثم تشترط مدير تصوير بعينه ومدير إضاءة بذاته وغيرهم من العناصر الفنية ليس لأنهم الأكفأ لكن لأنهم الأنسب …
هذا السياق لن يعيد المكانة الفنية المصرية التي تأثرت كثيراً في العقود الأخيرة … لكن أعمال مثل “ريش” للمخرج علاء الزهيرى أو “ستاشر” للمخرج سامح علاء أو غيرها من اعمال قد تساهم في ذلك قطعا.
نعود للقاعدة التي لا مناص منها وهي أنه “لا فن دون حرية للإبداع” هذه الحقيقة التي رفعها المبعدون الحقيقيون في وجه دعاة “الحسبة ” والوصاية باسم الدين وأيضا دعاة “الوطنية الموسمية ” الذين يمارسون الحسبة ويظنون أنفسهم يحتكرون الوطن والوطنية ونذكرهم بما قاله مسؤول مبادرة “حياة كريمة” أن “حرية الإبداع مكفولة وكذلك وجهة نظر صناع الفيلم “
نقلا عن الأهالى