إيرينى ثابت
كتبتُ البارحة منشورًا قصيرًا عبارة عن ترجمة بالعربية لعبارة مقتبسة تقول: (نحن نبتعد لا لكى نُعلم الآخرين درسًا؛ بل نبتعد لأننا نحن تعلمنا درسنا).

ويبدو أن العبارة نالت استحسان كثير من أصدقائى، مع أننى لم أكن أتوقع أن تشد الانتباه.. لا أعرف بالتحديد كيف فهم كل من قرأ العبارة معناها.. ولا كيف فسرها حسب ظروف حياته والمواقف التى يمر فيها ويبتعد عنها.. ولكننى أود أن أفهمها فى ضوء ما يحدث فى مجتمعنا المصرى من قضايا يتحدث فيها الناس وينحازون لطرف أو آخر انحيازا شديدا ولا يفكر أحد أن يبتعد ولو قليلا.

أذكر فيلم (ريش) لأنه صاحب أكبر تعليقات وآراء فى الوقت الراهن.. وامتدت المواقف الحادة من الفيلم: الانتقادات الكبيرة له على جانب، والإعجاب الكبير به على الجانب الآخر، للصحف الغربية والعالمية.. بمجرد أن تكتب اسم الفيلم بالإنجليزية على بحث «جوجل»، ستجد عدة مقالات وأخبار تحت عناوين مثيرة بأن الفيلم تم انتقاده بعنف فى مصر، وهو الفيلم الذى فاز بجائزة فى مهرجان «كان» الفرنسى.. وستجد فى تلك المقالات - مثلا على «التايمز» وعلى «فرانس 24» وغيرهما - تلميحات بين السطور لن تعجبك كثيرا.. ببساطة، لأنك مصرى.

ما الذى أثار تلك المشكلة التى لم يكن أبدا هناك داعٍ لإثارتها؟ ما أثار المشكلة هو أن كل واحد يريد أن يعلم الآخرين دروسا، وكل واحد يرى رأيه فقط هو الصواب الذى يجب أن يتعلمه الآخرون.. وكل واحد يريد أن يشتبك بحدة وعنف مع الرأى الآخر ليثبت أنه على صواب!!.

أعجبتنى هذه الشابة العشرينية الصغيرة عندما قالت لى: «لما أشوف الفيلم الأول!!».. ورفضت تماما أن تنساق وراء عشرات التصريحات ومئات التعليقات على السوشيال ميديا، لا تلك التى تنتقد الفيلم ولا التى تثنى عليه.. أرى أن الابتعاد هنا هو عين العقل ومسلك الحكمة.. والابتعاد هنا ليس كما يقول الاقتباس: لأننى تعلمت درسى، بل هو ابتعاد لمسافة مناسبة لكى أتعلم الدرس.

أولًا: لكى تكوّن رأيا لابد أن تدرس الأمر.. فى حالتنا هنا: ينبغى أن تشاهد الفيلم.. وإذا أخذت بنصيحة صديقتى العشرينية، فينبغى أن تفرغ دماغك من كل ما سمعته وقرأته عن الفيلم لتأخذ انطباعا شخصيا خاصا بك ومحايدا قدر الإمكان.

ثانيا: وقد كونت انطباعك عن الموضوع بعدما درسته، أو عن الفيلم بعدما شاهدته، اسأل نفسك سؤالا واحدا: هل رأيت نقاطا بيضاء ونقاطا سوداء، أم رأيت أن الموضوع كله والفيلم بكامله لون واحد من اللونين؟.. إذا كنت لم تر فيه هذا أو ذاك، فواجه نفسك بأنك لست ناقدا فنيا وأنك غالبا متحيز إما مع الموضوع/ الفيلم أو ضده.

هل معنى ذلك أننا ينبغى أن نقبل أى شىء؟، إطلاقا، بل قد نرفض ما لا نرى أن نقاطه البيضاء ترقى لأن تجعلنا نقبله.. لكن قبل هذه النقطة دعنا نذهب لثالثا.

ثالثا: بعد أن كونت رأيا وحاولت أن تكون موضوعيا، اقرأ لآخرين من الرأى والرأى المضاد.. انتقِ بعناية من تقرأ له أو تسمع رأيه.. وليكن من المتخصصين فى الموضوع محل النقاش.. واختر ذلك الناقد الذى يبرر قبوله أو رفضه بأدلة واضحة من العمل نفسه، وليس بعبارات رنانة أو حماسية.

رابعا: امنح نفسك بعض الوقت وبعض البُعد.. ابتعد قليلا لترى الصورة واضحة، وانتظر قليلا لتتركز الألوان على العدسة فتصبح الصورة أكثر هدوءًا وأقل صخبا.. سترى أن كلا من الرأيين كان به بعض الصواب وبعض الخطأ.. وستشعر أن هذا النزاع وتلك الحدة الشديدة لم يكن لها داعٍ، بل جعلت الأمر أكبر كثيرا مما يستأهل.. وأدخلت عناصر أخرى لم يكن هناك داع لجلبها.

خامسا: سيكون لك رأى واضح بعد تلك الخطوات.. ستجد أنك ببساطة لم يعجبك الفيلم، أو قد أعجبك الفيلم.. ستجد أنك فهمته، أو لم تشعر به، أو آثار تعاطفك، أو آثار استياءك.. ستنتقد طريقة عرض المشكلة، أو ستحب التركيز على المشكلة.. قد تجد فى نفسك أسئلة تود أن تطرحها على صناع الفيلم أو على المشاهدين الآخرين الذين يهتمون بنقد الفيلم بشكل موضوعى.. كل ما سبق جيد، ومتاح، ومشروع جدا.. ولا يثير أى مشكلات على الإطلاق.

أخيرا: قد لا تجد أنك تقف مع أو ضد الفيلم أو أى موضوع قيد المناقشة، بل تجد أنك بعد دراسة الأمر جيدا قد اكتفيت بأنك تعلمت كثيرا من هذه الدراسة ومن الآراء المختلفة.. وأن هذا هو درسك، وكفى.. فتبتعد دون أن تدلى برأيك.. «وكفى المشرحة قتلى».

كتبت فى مذكراتى: متى يتعلم بنى بلدى ألا يتخذوا مواقف حادة بسرعة؟ متى يتباطأون قليلا فى الانفعال ويسرعون بإعمال العقل؟ ومتى يبتعدون قليلا فيتعلمون كثيرا؟ ومتى نبتعد عن التشويش؟!.

irinithabet@gmail.com
نقلا عن المصري اليوم