بقلم: فيفيان سمير
يفرك يديه في قلقك، يضع ساق فوق الأخرى ثم ينزلها، ينظر في ساعته التي لا تتحرك عقاربها، يقف ثم يجلس قي توتر وانفعال واضح، رغم أن الميعاد المحدد له لم يحن بعد. استمر على هذا الحال لعشر دقائق وهو ينتظر بالقاعة الملحقة بمكتب الرئيس التنفيذي المنوط به تقييم مشروعه، الذي علق عليه أمالا لا حصر لها في نقله إلى مستوى مختلف تماما، لو تم قبوله من قبل الشركة التي حلم بمجرد دخولها. كافح كثيرا وراوغ أكثر حتى اكتشف أن في تلك البلاد المتقدمة القيمة الوحيدة لمن يجيد عمله وفقط. جاء دوره واستدعته السكرتيرة للدخول. لمح اللافتة المعلقة على الباب تحمل أسم الشخص الذي هو على وشك مقابلته، لم يكن الاسم المكتوب عليها يعني شيئا له. بمجرد أن خطى داخل الحجرة الواسعة شديدة الاناقة والرقي، كانت أولى صدماته أن رئيس الشركة سيدة، ولقناعته أن السيدات أقل كفاءة من الرجال، بدأ يستهين بتلك التي سيقوم بتقديم مشروعه أمامها وستناقشه بتفاصيله، وأقتنع بتفوقه عليها وبالتالي اقناعها بالمشروع بسهولة.
جلس أمامها بغرور غير راغب في اطالة جلسته المحددة مسبقا بعشرين دقيقة على الأكثر، فمازال يحمل ذلك العقل الشرقي الرافض الخضوع لسلطة امرأة حتى لو كانت أكفأ وأعلى شأنا منه، رغم السنوات العشر التي قضاها ببلاد الغرب، ورغم تغير الكثير من مفاهيمه بل ومعتقداته ايضا، لكن يبقي هذا الحاجز النفسي غير قابل للتعديل. رفعت رأسها عن كومة الأوراق التي أمامها وعلى محياها ابتسامة مهذبة، فجمدت أوصاله وتوقفت الكلمات بحلقه ودارت به عجلة الزمن.
لحظة حملته لكلية الهندسة منذ خمسة وعشرين عاما، كانت هذه السمراء ذات الشعر الأسود الكثيف الطويل تخطو مشرقة، تحمل أمالا وأحلاما تعانق السماء، وابتسامة تنير وجهها دقيق الملامح مليح الطلة. تسرق نظرات وقلوب كل من مرت به كفرسة عربية ترمح بخيال معجبيها الكُثر، لكنه هو من فاز بقلبها البكر، كان لطيفا ناعما يعرف كيف يكون جذابا حين يريد. أمتلكها بأنانية متناهية وفرض سيطرته عليها، عزلها عن أصدقائها وحجم علاقتها بالجميع بغطرسة وبحجة الغيرة عليها، حتى ملابسها كان يتدخل في اختيارها. على مدار الخمس سنوات الدراسية بالكلية أصبح هو محور اهتمامها ومركز حياتها، أستطاع أن يسرق طموحها، ويقزم أحلامها إلى مجرد الارتباط به والقنوع بالتحول إلى زوجة وأم فقط. كانت الأولوية لنجاحه هو ولتفوقه هو، لذلك كانت تبذل قصارى جهدها لمساعدته والقيام عنه بالكثير من المشاريع الدراسية، والحرص على أن تكون نتائجه متميزة، ثم يأتي شغلها هي في المرتبة الثانية وطبعا أقل كفاءة بمجهود أقل بعد إجهاد وتعب وبالتالي بتقدير أقل، لكن برضاء كامل منها وفرح لتفوقه. أمتص منها طاقة الحب وإشباع الذات والشعور بأنه قوي ومرغوب إلى درجة الهوس بنفسه. بدأ اهتمامه بها يقل تدريجيا وعصابيته تزداد لأتفه الأسباب، صدق أنه ناجح ومتفوق وأنها أقل منه ذكاء وتميز. بعد التخرج رأى أنها شخصية ضعيفة سلبية منقادة وغير كفأ له ولا فائدة من الارتباط بها، بل بالعكس ستكون عائق في سبيل تحقيق أحلامه. أنهى علاقته بها بمجرد رسالة غدر، نزع بها ما تبقي لها من ثقة بنفسها، حول كل ما كان حبا خالصا لتهم يعاقبها عليها بالفراق، دون حتى وداع لائق أو احترام لمشاعر إنسانة المفروض أنه أحبها، واختفى من حياتها إلى الأبد.
صدمة أخذت من عمرها الكثير وهي تشعر بالشلل التام، غير قادرة على المضي بحياتها التي أوقفتها عليه وفرغت إلا منه. فقد كان كل عالمها، تصحو صباحا لتقابله وتقضي يومها معه وتنام ليلا لتحلم به، تفرح بكلمة طيبة منه وتحزن بنظرة غضب بعينه، كان هو معيار الرضا والألم. هو من يحدد الصواب والخطأ في تصرفاتها، ويعاقبها أو يكافئها بكلمة أو باقة ورد، بعد أن استطاع غسل عقلها بهدوء وعلى مهل إلى أن غير صورتها الذاتية وغير صورته في عينيها لتحل قيما محل قيم، ويُبدل مفاهيمها ومواقفها ويلهيها بأوهام وضلالات الحب والحياة المشتركة، ويستنزف قدرتها حتى على الحلم بعيدا عنه، لتصبح الحياة بدونه جوفاء تطن بأصوات مبهمة، يتردد صداها بخواء روحها الفارغة، بلا معنى أو قيمة.
جاءت من جامعة أجنبية لاستكمال دراساتها العليا كطوق نجاة، سعى لها والدها في محاولة لاستعادة أبنته التي تضيع أمامه. كانت تحتاج لمن يؤمن بها أكثر من إيمانها بنفسها التي كفرت بها على يديه، كانت تحتاج لمن يدفعها للأمام ويدعم خطواتها المهتزة على الطريق، لمن يعيد لها ثقتها في نفسها وقدراتها، تجسد كل ذلك في الزميل المصري الذي شاركها المنحة وأعاد لها ذاتها التائهة، وجمع شتات روحها الممزقة، لتتفوق وتعود تحلم وتستعيد طموحها ويتألق نجمها، فتتسابق الشركات الكبرى لضمها لفريق عملها، وتتزوج من مَن أحبها حتى عادت تحب نفسها، وتعرف قدرها وقدراتها، لتجلس أخيرا على مقعد رئاسة شركة عالمية بجدارة.
أفاق من لحظة شروده، وداعب خياله المريض فكرة تذكيرها بما مضى لضمان النجاح لمشروعه، متوهما أنها مازالت تلك الصبية الصغيرة المتيمة بفارس أحلامها، وأنه مازال له نفس التأثير الساحر عليها. تهللت نظراته وانفرجت أساريره وهو يناديها باسمها الأول، وقبل أن يسترسل اتسعت ابتسامتها وأشارت له بجدية واحترافية قائلة "تفضل بعرض مشروعك سيدي، في خلال عشرين دقيقة فقط، وهو الزمن المحدد لكل مقابلة ".