محمود عابدين
تابع جميعنا مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي في الدورة ٢٦ "لقمة الأمم المتحدة لرؤساء الدول والحكومات لتغير المناخ" في بريطانيا الأول والثاني من الشهر الجاري بمدينة جلاسجو الاسكتلندية تلبية لدعوة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي تتولى بلاده الرئاسة الحالية للقمة، وذلك في ضوء الدور المهم الذي تؤديه مصر على المستويين الإقليمي والدولي ضمن إطار مفاوضات تغير المناخ.
وبدا لافتا تركيز "السيسي" الشديد خلال أعمال القمة على القضايا الهامةللدول النامية بشكلٍ عام، والأفريقيةبشكل دقيق، والتأكيد على ضرورة التزام الدول الصناعية بتعهداتها في إطار اتفاقية باريس لتغير المناخ، وكذلك التأكيد على تطلع مصر لاستضافة الدورة القادمة لقمة تغير المناخ خلال العام القادم ٢٠٢٢.
في هذا السياق، يجب الإشارة إلى بدايات هذه الكارثة الكونية، والتي صاحبت قيام الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع اختراع الآلة البخارية، ثم الاستخراج الشامل للبترول ومعالجته واستخدامه لتزويد تلك الآلات بالوقود، ثم الثورة الصناعية الثانية مع توافر المنتجات البترولية في تطوير محركات الاحتراق الداخلي؛ والذي صاحبه ثورة عظيمة في استخدام السيارات والسفن والطائرات فيما بعد؛ الأمر الذي ترتب عليه زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي الذي تسبب مع غيره من غازات الدفيئة إلى حبس المزيد من الحرارة وتضخيم ظاهرة التغير المناخي، والنتيجة الحتمية في هذه الحالة هي ارتفاع درجة حرارة الأرض واضطراب دورة المياه؛ وهطول الأمطار الغزيرة والفيضانات والجفاف والعواصف، وستكون موجات الحر وحرائق الغابات أكثر تدميرًا.
ولربط هذا بذاك، لابد من الرجوع إلى التقرير الصادر عن قمة المناخ الخامسة والعشرين في مدريد عام 2019، ومضمونه أن "الشهية المتزايدة للنفط والغاز تعني أن العالم ما يزال بعيدًا عن تحقيق التخفيضات المطلوبة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري لتجنب كارثة الاحترار العالمي"، كما أوضح التقرير المعروف باسم "ميزانية الكربون العالمية 2019" أن "النمو الضعيف في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في عام 2019 يرجع إلى انخفاض غير متوقع في استخدام الفحم العالمي، ولكن هذا الانخفاض غير كافٍ للتغلب على النمو القوي في استهلاك الغاز الطبيعي والنفط، فالانبعاثات من حرائق الغابات والتغيرات الأخرى في استخدام الأراضي ارتفعت في عام 2019 إلى 6 مليارات طن متري من ثاني أكسيد الكربون - حوالي 0.8 مليار طن متري – أي أكثر من العام السابق، وذلك مدفوع جزئيًّا بالحرائق في منطقة الأمازون وإندونيسيا.
من جانبه أكد الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش" في تلك القمة على وجود أزمة عالمية حقيقية ناتجة عن التغير المناخي،لافتا إلى "إننا نخوض منذ فترة طويلة حربًا انتحارية عقيمة على الطبيعة، والنتيجة ثلاث أزمات بيئية مترابطة، تتمثل في اضطرابات المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والتلوث الناتج عن الإنتاج والاستهلاك غير المستدامين "، كما ناقشقادة العالم كيفية تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى الصفر بحلول عام 2050، وذلك بالتركيز على التقييمات الأحدث في علوم المناخ ، وخيارات التكنولوجيا والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بهذا الهدف، ويأتي في مقدمة النقاشات ما يلي:
أولا: تقليل آثار التغير المناخي، بمعنى إن الاحتباس الحراري الحالي الناتج عن انبعاث الغازات الدفيئة للأرض لا رجوع فيه بشكل أساسي، ولكن هناك حاجة ملحة إلى خفض الانبعاثات الكربونية بشكل حاد لإبطاء التغير المناخي، وتجنب أشد التأثيرات على الظواهر الطبيعية والنظم البيئية وصحة الإنسان والبنية التحتية.
ثانيًا: تحسين الصحة وإفادة المجتمع، أي أنه سيكون لجهود الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري فوائد إضافية ستؤدي إلى خفض انبعاثات الوقود الأحفوري المسؤولة عن غالبية تلوث الهواء، وقتل الملايين كل عام، فضلًا عن بناء اقتصادات أكثر تنافسية، وزيادة الوظائف عالية الجودة، ومعالجة المشكلات الاجتماعية التي تتخلل نظام الطاقة الحالي.
ثالثا: تلبية الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية "باريس للمناخ" لعام 2016 والتى حددت هدفًا طموحًا للحد من درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية (2.7 درجة فهرنهايت)، وسيتطلب تحقيق هذا الهدف خفض الانبعاثات العالمية بنحو 45% من مستويات عام 2010 بحلول عام 2030، لتصل إلى صافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050. وسيتطلب تحقيق تلك الأهداف تخفيضات هائلة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية إلى جانب الإزالة الفعالة لثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
كما ناقشت حكومات العالم في هذا المؤتمر وضع هدف جديد لمقدار التمويل المناخي الذي يجب أن تقدمه الدول المتقدمة للدول النامية لتعزيز جهود معالجة التغير المناخي، وأيدت معظم الدول، بما في ذلك الصين والهند وجنوب إفريقيا، طلبًا بتقديم مبلغ 1.3 تريليون دولار أمريكي سنويًّا حتي عام 2030 لمواجهة الانبعاثات الكربونية، حيث تُعدُّ الصين أكبر مصدر لغاز ثاني أكسيد الكربون في العالم؛ إذ بلغت انبعاثاتها 10.06 مليارات طن متري عام 2018، ويُعدُّ الوقود الأحفوري مصدرًا رئيسا لتلك الانبعاثات، لا سيما حرق الفحم، حيث كان حوالي 58% من إجمالي الطاقة المشتقة في الصين من الفحم وحده في عام 2019.
بينما تأتي الولايات المتحدة الأمريكية كثاني أكبر مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مع ما يقرب من 5.41 مليارات طن متري من الانبعاثات خلال عام 2018، وقد تسبب قطاع النقل والصناعة وتوليد الطاقة في الجزء الأكبر من انبعاثات عام 2020، أما الهند فهي ثالث أكبر مصدر لانبعاث ثاني أكسيد الكربون في العالم، حيث أنتجت حوالي 2.65 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون في عام 2018، مع انطلاق الاقتصاد الهندي على طريق التحضر والتصنيع، وارتفاع استهلاك الوقود الصلب، مثل الفحم، تُعدُّ روسيا رابع أكبر مساهم في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم؛ حيث بلغ حجم انبعاثاتها 1.71 مليار طن متري عام 2018؛ وذلك لأن الغاز الطبيعي هو مصدر الطاقة الرئيس لتوليد الطاقة في البلاد، تحتل اليابان المركز الخامس على مستوى العالم؛ حيث أنتجت 1.16 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون عام 2018.
المؤسف هنا حقا وصدقا، أن أكثر من 190 دولة توصلوا إلى اتفاق خلال المفاوضات النهائية لاجتماع قمة جلاسكو، بهدف تعزيز تعهداتهم بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عالميًّا، ولكن الاتفاق – نكرر أسفنا الشديد - ليس إلزاميا......!!،والغريب العجيب، أن الأمين العام للمؤتمر ظل يستجدىالقادة أو يطلب منهم الوفاء بتعهداتهم في القطاعات الرئيسة؛ مما يثير تساؤلات حول كيفية متابعة أداء الحكومات في العقد المقبل، وقد قوبل ذلك بخيبة أمل العديد من المندوبين نظير عدم حصولهم على المزيد من الالتزامات الملموسة خلال العملية التي تتطلب موافقة جميع حكومات العالم تقريبًا.....!!
ما سبق من إلقاء الضوء على بعض جوانب مؤتمر المناخ الـ 26، ينقصه التطرق إلى النتائج الكارثية إذا استمرت الدول الكبرى في سياستها المناخية، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، والذي سيصاحبه تغيرات لا حصر ستؤثر على البشر جميعًا؛ أبرزها:
- حالات الجفاف، والأعاصير، وارتفاع منسوب مياه البحر، وحرائق الغابات، وكلها أصبحت أحداثا منتظمة في عالم شهد ما يقرب من 40 مليار طن متري من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO2)، والتي انطلقت في الغلاف الجوي خلال عام 2018، الأمر الذي سيصاحبه تغير مناخي مؤكد، سيجعل العمل في الهواء الطلق أكثر خطورة؛ حيث يدرس الباحثون كيف يمكن أن تؤدي درجات الحرارة المرتفعة للغاية والناجمة عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى خسائر في إنتاجية العمالة، ووجدوا أن كل تريليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المنبعثة يمكن أن تسبب خسائر في إجمالي الناتج المحلي العالمي بنحو نصف بالمائة، وأشاروا إلى أن العالم يشهد بالفعل خسائر اقتصادية تصل إلى %2 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
هذا، وقد توافق الباحثون على أن قطاعات الزراعة، والتعدين، واستغلال المحاجر، والتصنيع، والبناء تُعدُّ القطاعات الاقتصادية الأكثر أصبحت معرضة هي الأخرى للحرارة، والتي تمثل 73% من ناتج الدول منخفضة الدخل، وبالتالي ستصبح الدول النامية الأكثر تضررًا من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وليس هذا فحسب، حيث تشير العديد من الدراسات إلى أن ارتفاع درجة الحرارة نتيجة لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون يمكن أن يسبب عددًا كبيرًا من الوفيات بشكل مباشر، حيث أن هناك 83 مليون حالة وفاة تراكمية متوقعة بين عامي 2020 و2100، أي بحلول نهاية القرن الحالي، وهذه الزيادة المتوقعة في الوفيات السنوية، والتي تبلغ 4.6 ملايين حالة، ستضع التغير المناخي في المرتبة السادسة في قائمة مخاطر العبء العالمي للأمراض لعام 2017 قبل تلوث الهواء الخارجي (3.4 ملايين حالة وفاة زائدة سنويا)، وأقل بقليل من السمنة (4.7 ملايين سنويا).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ارتفاع درجة الحرارة يجعل من الصعب على البشر تنظيم درجة حرارة الجسد، فعندما تتجاوز درجة حرارة المصباح الرطب درجة حرارة الجلد (35 درجة مئوية)، لن يكون بإمكان البشر تبديد الحرارة في البيئة؛ مما سيتسبب في زيادة خطر الوفيات، ومن المتوقع أن يزداد تواتر الأيام الحارة بشكل كبير في متوسط درجات الحرارة العالمية في المرحلة القادمة، ومن المتوقع كذلك أن تتضرر الأماكن ذات المناخات الأكثر سخونة بالفعل بسبب التكرار المتزايد بشكل كبير للأيام شديدة الحرارة، بينما الأماكن ذات المناخ البارد من المحتمل أن تشهد نقصا في الوفيات الناجمة عن التغير المناخي، ومع ذلك ستشهد انخفاضا في وتيرة أيام البرد القارس.
نضف الي ذلك وجود العديد من السياسات التي يمكن أن تحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتبطئ ظاهرة الاحتباس الحراري، ومن المتوقع أن يكلف بعضها تريليونات الدولارات للحكومات ودافعي الضرائب. ومع ذلك، فإن المجتمع سيدفع الثمن أيضًا إذا لم يفعل ما يكفي لمكافحة التغير المناخي، وقد كشف مسح جديد أنه إذا لم يتحرك العالم بسرعة، فقد يكلف التغير المناخي العالم نحو 1.7 تريليون دولار سنويا بحلول عام 2025، ويزيد إلى نحو 30 تريليون دولار سنويا بحلول عام 2075، وإذا ارتفعت درجات الحرارة العالمية بنحو 2.4 درجة مئوية، يمكن أن يؤدي هذا إلى خسارة ما يقرب من 0.5 إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي للويلات المتحدة الأمريكية بحلول عام 2090، وإذا وصل ارتفاع درجة الحرارة إلى 4.7درجات مئوية، فقد تصل خسارة الناتج المحلي الإجمالي إلى 6%.
إذا بدون مساعدة الطبيعة، لن نزدهر أو حتى نبقى على قيد الحياة، وهذا ما ستطرق إليه مصر العام القادم أثناء استضافتها لقمة المناخ الـ 27 بعد قمة "كوب 26" للمناخ، والتي ناقشت إمكانية الوصول إلى صفر انبعاثات كربونية، ولا شك أن مصر ستؤدي في هذا الجانب دورًا رائدًا على مدى عام كامل.
الحديث عن عدم وجود اتفاق ملزم من جانب الدول الكبرى للحد من الانبعاث الحراري، يجعلنا نتطرق في الكتابة إلى ما يسمى بـ "تخليق الفيروسات، أو أماكن وجودها واحتمالية استخدامها"، وهذا الأمر ينذر بخطر لا يحمد عقباه بحسب ما كشف عنه أحد الخبراء العالمين في الأمراض ويدعىالبروفيسور دنيس كارول عندما حذر من أن "الميكروبات القديمة المجمدة ستشكل خطرًا على البشرية، مع ارتفاع درجات الحرارة التي تذيب القطب الشمالي"، وأضاف"كارول" - في فيلم وثائقي عن عرض على شبكة "نيتفليكس"، لصحيفة "ميترو" اللندنية - قائلا: يجب أن نكون حذرين للغاية بشأن التقليل من التهديدات المحتملة التي يمكن أن تشكلها الجراثيم التي ولدت من جديد، لأن الأمراض القادمة من الحياة البرية؛ يجب أن تكون مصدر قلق عالمي بعد جائحة فيروس كورونا.
حديث "كارل" يأتي في الوقت الذي نشر فيه العلماء بحثًا جديدًا عن الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها درجات الحرارة المرتفعة التي تذيب الكتلة القطبية دائمة التجمد، إلى إعطاء حياة جديدة للميكروبات الخاملة، وأضاف إن هذه البكتيريا والفيروسات، المتجمدة منذ آلاف السنين، يمكن أن تشمل أمراضًا "قضت عليها البشرية" سابقًا، وهي أمراض لم نواجها أبدًا في عصرنا الحديث، وينصح "كارل" بأخذ المخاطر التي قد يشكلها هؤلاء الزائرون القدماء على البشرية بجدية"، وأشار باحثون إلى أن متوسط درجات الحرارة في القطب الشمالي قد ارتفع بشكل كبير في السنوات الثلاثين الماضية، ويتوقع أن يستمر في الارتفاع بسرعة أكبر من بقية العالم، مع تفاقم أزمة المناخ.
وفي وقت سابق قام أكاديميون "بتنشيط" بكتيريا عمرها 8 ملايين عام كانت متجمدة، ما يوضح مدى خطورة عودة البكتيريا إلى الحياة. وكشفت الأبحاث أيضًا عن آثار فيروسات عملاقة جديدة في التربة دائمة التجمد في القطب الشمالي، بينما ارتبط ذوبان الجليد في القطب الشمالي بفيروس "فوسمين" المنتشر من الأطلسي إلى المحيط الهادئ في الفقمة وثعالب البحر، كما نشر علماء من الولايات المتحدة وأوروبا نتائج حول "المخاطر المستقبلية المحتملة للعوامل المعدية الضارة الناشئة عن إذابة الجليد المتجمد في منطقة القطب الشمالي". بعد ورشة عمل، ما مفاده: "لم تظهر منطقة القطب الشمالي حتى الآن بشكل واضح في خرائط النقاط الساخنة العالمية لخطر الإصابة بالأمراض المعدية. ومع ذلك، يمكن الآن إثبات أن المنطقة القطبية الشمالية أصبحت ذات صلة بها بشكل متزايد بسبب تأثرها السريع بالاحترار والتنمية، وخطر ذوبانها قائم مستقبلاً".. جريدة البيان الاماراتية 8 مايو 2020.
هذا الكلام يجرنا جرا إلى آخر التطورات العسكرية العالمية للسيطرة على القطب الشمالي وأنتاركتيكا في مقال للكاتبان: ريان بورك وجهارا ماتيسك"، عرض: هدير أبو زيد - معيدة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بتاريخ 20 يوليو 2020 بموقع مركز المستقبل للدراسات والبحوث المتقدمة، تحت عنوان "الصراع القادم"، يطرح الكاتبان فيه سؤلا: هل تتجه واشنطن لمنافسة بكين وموسكو بالقطب الشمالي؟، ويجيبا:
- "اكتسبت المناطق القطبية (القطب الشمالي وأنتاركتيكا) أهمية كبيرة بفضل التغيرات المناخية التي جعلتها ساحة للتنافس الدولي بين القوى الكبرى، نظرًا لما تحتويه من مصادر للتعدين والطاقة كالنفط والغاز الطبيعي، كما أنها ستكون بمثابة ممر جديد أمام النقل البحري لجميع دول العالم"، وأضافا:
- "وفي هذا الإطار، سعت كل من الصين وروسيا للاستفادة من المناطق القطبية، بوضع استراتيجيات أحادية وأخرى تعاونية، فضلًا عن تطوير علاقاتهما بالدول المحيطة بالقطب الشمالي. ناهيك عن قيامهما بإطلاق عدد من التجارب للبحث والتنقيب في القطب الشمالي والجنوبي، بينما تنشغل الولايات المتحدة بمصالحها في آسيا وأوروبا على حساب المناطق القطبية (القطب الشمالي وأنتاركتيكا) والتي سيطرت عليها الطموحات التوسعية لكل من بكين وموسكو، لأنها ستكون البوابة الرئيسية للاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة، وانطلاقًا من هذا، استعرض الكاتبان ريان بورك"و"جهاراماتيسك في دراستهما المعنونة "المحور القطبي الأمريكي: السعي لميزة تنافسية في مواجهة القوى العظمى"، أهم الإجراءات والاستراتيجيات الواجب على الولايات المتحدة اتخاذها لتأمين مصالحها في المناطق القطبية، وذلك بإنشاء "محور قطبي أمريكي" يعتمد بشكل أساسي على استغلال القدرات العسكرية الأمريكية، مع ضرورة بناء شبكة من التحالفات القوية مع دول الجوار الجغرافي المباشر للقطب الشمالي، لردع ومواجهة الخطط التوسعية للصين وروسيا"، واستطر الكاتبان:
- "على عكس ما يتنبأ به عديد من علماء السياسة البارزين، يرى الكاتبان أن المنافسة المقبلة بين القوى العظمى لن تكون في بحر الصين الجنوبي أو أوروربا الشرقية، بل ستكون في المناطق القطبية (القطب الشمالي وأنتاركتيكا) نتيجة لتعارض المصالح بين القوى الدولية الكبرى، ففي الوقت الذي ركّزت فيه الولايات المتحدة على التنافس التكنولوجي، وتطوير الأسلحة، وتوسيع نطاق تقاسم الأعباء، فضلًا عن انشغالها بالعمليات القتالية في الشرق الأوسط وإفريقيا، ورغبتها في إعادة التوازن الاستراتيجي إلى مناطق آسيا والمحيط الهادئ لردع النفوذ الصيني، مع محاولاتها الرامية لردع النفوذ الروسي في أوروبا؛ تمكنت كل من بكين وموسكو من الوصول إلى المناطق القطبية بشتى الوسائل، للاستفادة من مواردها وموقعها المتميز للملاحة الدولية"، ويواص الكاتبان حديثهما:
- "تشير الدراسة إلى قيام الصين ببناء أول كاسحة جليدية تعمل بالطاقة النووية في القطب الشمالي، ونشرت سربًا من الطائرات في القطب الجنوبي، كما أرسلت أسطولًا من قوارب الصيد إلى أنتاركتيكا لاستغلال الموارد البيولوجية فيها. فضلًا عن إصدارها وثيقة "سياسة الكتاب الأبيض" التي أكدت فيها أهمية حماية البيئة، ودعم الحوكمة وأسس البحث العلمي في المناطق القطبية، ومن ثمّ شرعت في وصف نفسها بأنها "دولة شبه قطبية شمالية"، لتضفي الشرعية على ممارستها في القطب الشمالي، مما يجعلها محورًا قائمًا على فكرة القرب الجغرافي، بالرغم من ابتعاد الصين عن المنطقة بمسافة لا تقل عن 1600 كم. وفي يناير 2018، أعلنت عن طموحها لإقامة طريق "الحرير القطبي"، فوقّعت على عدة صفقات مع روسيا، ركزت جميعها على ضرورة التنمية المتكاملة للمناطق ذات المناخ القاسي ومنطقة القطب الشمالي"، ويردفا:
- "وعليه، أكد بعض الخبراء أنه بحلول عام 2030، سيكون المحيط المتجمد الشمالي خاليًا تمامًا من الجليد في أشهر الصيف، ما سيسهل بشكل كبير نقل الغاز الطبيعي المسال الروسي، علمًا بأن الصين أحد أكبر المستوردين للغاز الطبيعي في العالم، وهو ما يعني أن الشراكة بين موسكو وبكين ستكتسب بُعدًا استراتيجيًّا جديدًا، وعلى الجانب الآخر، تحتفظ روسيا بحوالي 40 كاسحة جليدية، و34 غواصة بحرية بالقطب الشمالي، فضلًا عن 11 كاسحة جليدية ما زالت قيد الإنتاج بحسب ما ذكرت إحدى الصحف الكندية، في مقابل كاسحة واحدة فقط للولايات المتحدة والتي لا تمتلك أيضًا أي غواصات أو فرق بحرية هناك"، ويوضح الكاتبان:
- "علاوة على ذلك، سعت روسيا لتكثيف تواجدها العسكري في كل المناطق القطبية، حيث أنشأت ست قواعد عسكرية مزودة بأنظمة الدفاع الجوي "إس 400"، فضلًا عن نشرها أربع فرق بحرية قتالية تحسبًا لأي شيء قد يحدث مستقبلًا بالمنطقة القطبية، في الوقت الذي لا يزال فيه موقع الممثل الخاص بالولايات المتحدة في القطب الشمالي شاغرًا حتى في ظل إدارة "دونالد ترامب"، وانطلاقًا من هذا، أكد الكاتبان على ضرورة قيام الولايات المتحدة بوضع استراتيجية كبرى تعتمد على التكنولوجيا والقدرات العسكرية المتقدمة التي تتميز بها، لاحتواء الطموحات الصينية والروسية في المناطق القطبية، التي باتت من أهم مناطق التنافس الدولي، الذي لن يفوز به سوى الدولة القادرة على بناء تحالفات قوية بالمناطق القطبية، مع الاستعداد لحشد قواتها العسكرية تحسبًا لأي مواجهة محتملة".
وتذكر الدراسة أن الصراعات في المستقبل ستتطلب الاهتمام بالجغرافيا وتوسيع البنى التحتية العسكرية بجانب التكنولوجيا، نظرًا لعدم قدرة التكنولوجيا وحدها على حسم الحرب، وهو ما تجلى في الجهود الأمريكية في فيتنام وأفغانستان، حيث اعتمدت الولايات المتحدة على استخدام التكنولوجيا لتعزيز قدراتها العسكرية، ومع ذلك لم تتمكن من القضاء على المتمردين والإرهابيين حتى وقتنا الحالي، هذا ما يراه الكاتبان، ويضيفا:
- "إن استمرار الهيمنة الأمريكية سيتوقف على إدراك الولايات المتحدة أهمية المناطق القطبية كمصلحة حيوية لأمنها القومي. وبناء عليه، سيتوجب على الولايات المتحدة وضع استراتيجية تتضمن إنشاء كاسحات جليدية متطورة، وتدريب عدد من القوات المتخصصة للعمل في الظروف المناخية القاسية، وتكثيف التحالفات والخطابات الإعلامية ضد الطموحات الصينية والروسية في المناطق القطبية، مع ضرورة الاهتمام بالقطب الجنوبي بنفس قدر الاهتمام بالقطب الشمالي. وهنا تجدر الإشارة إلى امتلاك الولايات المتحدة ثلاث محطات بحث في أنتاركتيكا، تندرج جميعها تحت مؤسسة العلوم الوطنية (NSF)، وتهدف إلى البحث العلمي والتطوير. ومع ذلك يجب الانتباه للطموحات الصينية هناك، حيث تقوم بكين ببناء مهابط طائرات في القطب الجنوبي، فضلًا عن استمرار عمليات العسكرة الصينية في أنتاركتيكا".
وفي هذا الإطار، أشار الكاتبان إلى ضرورة قيام الولايات المتحدة بإعادة نشر قواتها وقواعدها العسكرية، مع الاهتمام بخلق عدد من الاستثمارات ومشروعات البنى التحتية في المناطق القطبية، التي تفتقر لكافة مظاهر الوجود الأمريكي، كما ينبغي على الولايات المتحدة نشر عدد من الوحدات البحرية في شمال ألاسكا حيث المناطق المأهولة التي ستوفر مهابط للطائرات، وبنى تحتية صغيرة لدعم القوات البحرية في المناطق القطبية المجاورة، وهو ما سيكون بمثابة رسالة ردع قوية لكل من روسيا والصين على طول.
لذا فإن عدم تعزيز قدرات النقل الجوي الاستراتيجي بإنشاء عدد من القواعد الجوية في المناطق القطبية، واكتفائها بقاعدة "إيلسون" الجوية التي تقع على بعد 1700 ميل من القطب الشمالي، يفسر ضعف فعاليتها في ردع القواعد الروسية هناك.، وهو الأمر الذي جعل الكاتبان يشيران إلى عدد من الوسائل التي يجب على الولايات المتحدة أن تنتهجها لضمان تنفيذ استراتيجيتها في المناطق القطبية "استراتيجية المحور القطبي"، ومن أبرزها بناء التحالفات ضد روسيا والصين، مع ضمان دعم ومشاركة الدول الأخرى صاحبة المصالح في تلك المناطق، وهو ما سيضمن للولايات المتحدة الاستفادة من الموارد والقدرات العسكرية للحلفاء في المناطق القطبية، تحت ستار تعزيز التعاون الأمني معهم، ومن ثم ضمان تقاسم الأعباء في المستقبل، ولا سيما مع نجاح فكرة بناء التحالفات أكثر من مرة، أبرزها إعاقة الاستثمار الصيني في القطب الشمالي، عندما أقنعت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" الدنمارك بتمويل البنية التحتية في جزيرة "جرين لاند" -أكبر جزيرة في العالم- التي تقع بين منطقة القطب الشمالي والمحيط الأطلسي، شمال شرق كندا، لكنها عضو في مملكة الدنمارك.
باختصار، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة التوازن بين القدرات العسكرية والتحالفات لمواجهة المواقف القطبية لروسيا والصين، لا سيما وأن قدراتهما العسكرية القطبية المشتركة الحالية تتجاوز -إلى حد كبير- واشنطن وحلفاءها من الدول الصديقة (مثل: تشيلي، وفنلندا، وجنوب إفريقيا) حول دوائر القطب الشمالي وأنتاركتيكا.
ختامًا، يؤكد الكاتبان ضرورة قيام الولايات المتحدة بمواجهة جهود العسكرة القطبية لكل من الصين وروسيا في القطب الشمالي، لأنه إذا استمرتا في توسيع جهودهما بلا منازع ودون رادع في المنطقة القطبية، فسوف تسيطران قريبًا على المنطقة، وهو ما سيشمل التحكم في طرق التجارة الاقتصادية، وفرض رسوم المرور، والسيطرة على موارد الطاقة الحيوية، فضلًا عن احتمال قيام موسكو بالسيطرة العسكرية على المنطقة بفرض رسوم لاستخراج تراخيص العمل في منطقة القطب الشمالي.
وترى الدراسة أن السؤال الرئيسي هنا ليس ما إذا كانت الخلافات حول الموارد والمطالبات الإقليمية ستثير الصراع في القطب الشمالي وأنتاركتيكا، بل متى وكيف ستصبح المناطق القطبية جاهزة للجهود العلمية والعسكرية للحد من آثار تغير المناخ، والتي يمكن أن تغير أوجه التنافس الدولي بين القوى العظمى.....؟؟.. وللحديث بقية.