يوسف سيدهم
عشنا زمنا صعبا كانت فيه الآثار المصرية تمتهن وتتعرض للعبث والسرقة والتهريب, وما كان يعرض منها في مصر لم يكن يحظي بالاهتمام والتكريم اللذين يتناسبان مع قيمته التاريخية والحضارية العظيمة… وبينما كنا نسمع ونزهو بأن مصر لديها ما يربو علي ثلث آثار العالم, كنا نتحسر علي عدم اكتراثنا بآثارنا ونعزو ذلك إلي كثرتها وغزارتها… وكان من الأمور المؤلمة أن يطلق البعض علي متحف الآثار المصرية بميدان التحرير مخزن الآثار المصرية في إشارة إلي تكدس الآثار فيه وعدم عرضها بما تستحق من تنسيق ورونق… كما عشنا زمانا كنا نتساءل: هل الأفضل لمصر وللحضارة المصرية انتشار آثارها المهربة في العديد من دول العالم وفي متاحفها الشهيرة أم الأفضل العمل علي استعادتها؟.. وكان الرد الجارح يصدمنا بأن حال القطع الأثرية المصرية الموجودة في الخارج سواء كانت مسلات تتوسط أشهر ميادين العواصم الأوروبية أو قطعا أثرية تتصدر أشهر المتاحف فيها وما تناله من الاهتمام والإبهار في العرض, هو دعاية هائلة لمصر لم تكن لتحصل عليها بافتراض بقاء هذه الآثار في حوزتها.
ولست أنسي تعليق كاتبنا الكبير الأستاذ أنيس منصور ردا علي تباكي البعض علي إهداء مصر لمتحف المتروبوليتان في نيويورك أحد المعابد الفرعونية الصغيرة التي كانت معرضة للغرق في بحيرة السد العالي نظير مشاركة أمريكا في جهود اليونسكو في إنقاذ آثار النوبة وعلي رأسها مجموعة معابد أبوسمبل… فقد قال: إن لدينا الكثير والكثير الذي يفوق بمراحل القيمة التاريخية والحجم للمعبد الذي تم إهداؤه, لكن من ينتقد ذلك فليذهب لزيارة المتروبوليتان ويري درجة
الاهتمام والإبهار الذي تم عرض المعبد عليها, حيث تم وضعه في مساحة رحبة تحيطه بحيرة ماء تضفي عليه مع الإضاءة المتخصصة قدرا كبيرا من الرهبة والجمال مع الإحساس بالقداسة لعدم الاقتراب منه والاكتفاء برؤيته عبر المانع المائي… وذلك عينه ما قيل علي رأس نفرتيتي في ألمانيا وعلي حشد الآثار المصرية في متاحف لندن وباريس وروما وغيرها من عواصم العالم.
وإن أنسي لا أنسي واقعة طريفة حدثت أثناء زيارتي وزوجتي لهضبة الأكروبوليس الشهيرة في العاصمة اليونانية الشهيرة أثينا… فبعدما تمتعنا جدا بالتجول عبر ما تحتضنه من معابد وآثار ومنحوتات علي الطراز الإغريقي الرائع إذا بالمرشدة السياحية -ويبدو أنها راعتها ملامحنا الشرقية- تسألنا: من أين أتيتم؟ وعندما أجبناها: من مصر. قالت: أتتركون ما لديكم في بلادكم من أعظم آثار وكنوز العالم لتأتوا إلي هنا؟… وطبعا هذا لا ينتقص من قيمة وجمال الأكروبوليس ولا عظمة الحضارة الإغريقية لكنه كان تعبيرا عفويا لتذكيرنا بما لدينا من إرث حضاري وأثري يبهر العالم.
وإذ أقول ذلك لا يسعني إلا أن أعترف بأننا نعيش هذه الأيام أزهي وأبهي حقبة في تاريخنا الحديث من حيث
الاهتمام بآثارنا المصرية وإعادة الاعتبار لها وعرضها في أفضل صورة سواء في مواقعها الأثرية أو في تجمعاتها المتحفية… وأرجو ألا أكون مبالغا إذا قلت إن ما يحدث في السنوات القليلة الماضية من بناء وتطوير المتاحف المصرية علي أسس علمية عالمية وتاريخية هو إنجاز رائع بجميع المقاييس يبهر المصريين والأجانب علي السواء ولا يفوقه إلا ما أسفر عنه عصر الاكتشافات الأثرية المصرية في فجر القرن العشرين.
ومن منا يستطيع أن ينكر روعة تصميم وتنسيق المتاحف المصرية الجديدة وأولها المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط الذي يعد المتحف الأول الذي يضم في جنباته جميع الحقب التاريخية المصرية منذ باكورة استقرار الإنسان المصري في الوادي ونشأة المجتمع عبورا عبر العصور الفرعونية والبطلمية والإغريقية والرومانية والقبطية والإسلامية حتي عصر أسرة محمد علي وأعتاب العصر الحديث… ولا يفوتني أن أسجل بكل انبهار ما عشناه منذ نحو شهرين أثناء الاحتفال العالمي الرائع لموكب نقل المومياوات الملكية من متحف التحرير إلي متحف الفسطاط.
والآن تحتبس الأنفاس ترقبا للافتتاح العالمي الذي ستشهده مصر والعالم للمتحف المصري الكبير في الجيزة والذي يعد بجميع المقاييس المتحفية والمعمارية قطعة فنية رائعة لتكريم ورد اعتبار وعرض الآثار المصرية بما يليق بها.
وفي هذا الصدد لم تنس مصر الأصل المتحفي وهو المتحف المصري بميدان التحرير وهو أول متحف زرناه جميعا ونحن طلبة في مرحلة الدراسة المدرسية, فبعد أن تم سحب المجموعات المتحفية التي كان يضمها لنقلها إلي متحف الفسطاط والمتحف الكبير بالجيزة, تم إعادة تنسيقه وتطويره وإعداده لاستقبال الزائرين وهو في ثوب جديد مبهر قامت وطني بنشر تغطية تفصيلية له في عددها الماضي.
أما الخبر السار الذي تقدمه وطني لقرائها علي صفحات هذا العدد فهو تقرير جامع شامل حول ثمار الجهود المصرية لاسترداد آثارنا التي تم تهريبها إلي الخارج والتي شملت 12 دولة, هي: ألمانيا, الدنمارك, فرنسا, هولندا, إنجلترا, أمريكا, سويسرا, إيطاليا, الإمارات, الكويت, المكسيك وقبرص… والحقيقة أن الفارق بين الأمس واليوم أن الآثار المصرية تعود إلي الحضن الدافئ لمصر وتكرم.