عادل نعمان
دار حوار ساخن حول بعض أحكام المواريث فى الفترة السابقة، حين كتب أحد المشايخ لابنتيه كل ثروته، حتى لا يشاركهما أحد فيها من الورثة الشرعيين بعد وفاته، واعترض بعض المشايخ على هذا التصرف، واعتبروه تعطيلا لأحكام الله، وانضم لهم من يؤيد مساواة المرأة بالرجل فى ميراث الوالدين، وحجتهم أن الكثير من النساء يعُلن أسرا بأكملها أو يشاركن الرجال أعباء الأسرة ونفقاتها، ومسائل أخرى أيضا يستدعى الأمر تعديلها، بما يتفق مع مصالح الناس واحتياجاتهم، ومادام الناس يتحايلون على أحكام المواريث، بعقود هبات أو بيوع صورية أو تصرفات مرهونة بالوفاة لدفع ظلم قد يتعرض له أحد الورثة، أو منع مشاركة الغير فى ميراث أولاده لهم، فيصبح هذا التحايل حلا مستساغا ومطلوبا، ورفضا للوضع القائم الذى يراه ضد مصلحة أولاده، وهنا يستدعى الأمر وقفة موضوعية وإلا عمم الناس التحايل على كل الأحكام!!.
وقبل إبداء الرأى حول هذا الأمر لنا معكم مسألتان، الأولى (المسألة العمرية «العول»)، وقعت هذه المسألة فى صدر خلافة عمر، والحكاية أن امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ زَوْجٍ وأختين (وهم الورثة فقط)، فلما هموا بتوزيع الميراث حسب الحكم، للرجل نصف ما تركت وللأختين كل منهما الثلث، (كان حق الزوج النصف 3 أسهم من 6) وللأختين الثلثان (وحقهما 4 أسهم من 6)، فزاد المستحق للورثة عن التركة (الناتج 7 أسهم وهو أكبر من الميراث المحدد بـ6 أسهم فقط)، فأين الخلل؟ فَإن بدأوا التوزيع من الزوج وحصل على حَقه كَامِلا 3 أسهم من 6، فإن المتبقى لِلأْخْتَيْنِ يكون 3 أسهم فقط «ناقصا سهما واحدا عن حقهما 4 أسهم»، وَإِنْ بَدَأْوا التوزيع من الأْخْتَيْنِ وتحصلا على حقهما 4 أسهم من 6 فإن المتبقى لِلزَّوْجِ يكون 2سهم فقط (ناقصا سهما واحدا عن حقه 3 أسهم). وعرض الأمر على عمر، وأشار عليه بن عباس «بِالْعَوْل» وهو (نقص فى أنصبة ذوى الفروض إن زادت عدد الأسهم عن قيمة التوزيع). وَيُرْوَى عنه أنه قَال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَك سِتَّةَ دَرَاهِمَ، لِرَجُلٍ عَلَيْهِ ثَلاَثَةٌ، وَلآِخَرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ أَلَيْسَ تَجْعَل الْمَال سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ قَال: نَعَمْ، قَال بن عباس: هُوَ ذَلِكَ فَقَضَى عُمَرُ بِالْعَوْل». ولو وزع الميراث حسب الحكم لكان ظلما لطرف عن الآخر، وما رآه الخليفة عن بن عباس أقرب إلى العدل.
المسألة الثانية: (حرمان أبناء الابن المتوفى حال حياة أبويه من الميراث).. فقد يتوفى أحد الأبناء وله أولاد حال حياة أبويه أو كليهما معا، وبعد موت الجد أو الجدة يرث الأعمام والعمات كل التركة تعصيبا، ولا يرث أبناء الابن المتوفى، فإذا بأولاد العم والعمات أثرياء من ميراث الجد والجدة، وأولاد المتوفى هذا فقراء يسألون الناس ويتضورون جوعا، وربما كانت ثروة الجد من نتاج عرق هذا الابن أو شريكا فيه، حتى عدل هذا بقانون «الوصية الواجبة»، وتخطى القانون الشرع لمصلحة هؤلاء، وورث أبناء المتوفى، وهذا القانون باختصار وإن كان يحتاج إلى تعديل (تجب لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات فقط، وتجب لأولاد الذكور وإن نزلت طبقاتهم، بشرط ألا يكون بينه وبين الميت أنثى، وصية بمثل ما كان يستحقه والدهم ميراثا، شرط ألا يزيد عن الثلث ولا يكون غير وارث، وإلا يكون قد أعطاه الجد قدر حقه تبرعا أو وصية) ولم يكن سبب حرمان أبناء المتوفى من الميراث حكما إلهيا نزل على الرسول، ولكن هذه المسألة لم تنشأ فى حياة الرسول حتى تعرض عليه للحكم كسابقتها، فكان حرمان أبناء المتوفى من الميراث ليس حكما واضحا صريحا منصوصا عليه، لكن لعدم وجود حالة وظرف وحدث مشابه فى حياة الرسول، وشتان بين حكم وحكم، وزاد الأمر تعقيدا أن آية الوصية نسختها أحاديث آحاد.
إن
أحكام المواريث تغيرت فى فترة زمنية محدودة، وهى فترة الرسالة المحمدية، من الوصية للوالدين والأقربين إلى تحديد أنصبة شرعية، ثم نسخ منها ما نسخ، ثم أضيف لها بقدر حاجة الناس فى فترة النبوة حتى وفاته، ولو كانت قد استمرت حياة النبى وداوم على التنزيل لواكبت الأحكام ظروف الناس واحتياجاتهم المتجددة والدائمة، وغير وبدل ونسخ كلما عرض على النبى من مستجدات وحاجات وأحداث ومواقف ومنافع وأضرار ما كان الاتصال قائما بين السماء والأرض، وربما اشتكى بعض الناس من تطبيق حكم كان سهلا على غيرهم شديد الصعوبة عليهم، واستجاب الله لأحسن منه، وهكذا كانت حكمة الناسخ والمنسوخ، وأولاها هذا الميراث الذى ينتقل إلى الأخوة ويتقاسمون بنات المتوفى حقهن، إن كان ليس له ولد، وربما يكون هذا الأخ لا يعلم عن بنات الأخ أو الأخت شيئا حتى يشاركهن شقاء الأب أو الأم، فيلجأون إلى التصرف قبل الوفاة كما فعل شيخنا.
وهذه سلطة الدولة وأجهزتها فى تغيير ما يرونه صالحا للناس، ونعود إلى ما قاله فقيه حنفى «بن عابدين»: (كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقى الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس)، وهذا الفقيه المالكى القرافى: (إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد «المنافع والفوائد» تتغير أحكامها إذا تغيرت هذه العوائد)، هذا هو القول الفصل، ويؤكد أن المصلحة فوق النص، وأن الحكم يدور مع العلة، وأن الحاجة إلى قانون وضعى كامل للأحوال الشخصية والطلاق والمواريث أصبح ضرورة حياتية. «الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم