د. رامي عزيز
تعتبر الديمقراطية وحقوق الإنسان، من أكثر القيم التي يفتخر الغرب بها، ويعتبرها من أهم المنجزات التي قدمتها الغربية '> الحضارة الغربية على المستوى الإنساني، والتي لم يتوصل الغرب لها بين ليلة وضحاها، بل أخذ الأمر قروناً طويلة؛ كانت مملوءة بالحروب والثورات والدماء.
وبمرور الزمن تخطت تلك القيم الغربية؛ مفهومها المتعارف عليه، وأصبحت إحدى الأدوات التي يستخدمها الغرب، لإصدار تقييمات للدول والشعوب الأخرى، وعلى الرغم من أهمية فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإنهما في أحيان كثيرة، أصبح تفسير مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مجالاً للخلاف بين الدول الغربية والدول الأخرى، وفي بعض الأحيان، خرجت تلك المفاهيم عن نطاقها، لتصبح إحدى الأدوات المستخدمة للضغط والتدخل في شؤون الآخرين، وذلك من خلال التقارير التي تصدر عن مؤسسات حكومية وسياسية كالبرلمانات، والمفوضيات الخاصة بمراقبة أوضاع حقوق الإنسان، أو حتى المنظمات الخاصة التابعة للمجتمع المدني، وعلى الرغم من أهمية هذه التقارير للوقوف على حالة الديمقراطية وحقوق الإنسان في مختلف أرجاء العالم، فإنها أوجدت حالة من التشكك في مصداقيتها في كثير من الأحيان، نتيجة لعدم نقلها الصورة بواقعية، وعدم تحري الدقة فيما ينقل؛ والاعتماد على مصادر لها أهداف واهتمامات آخرها الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى خضوعها لتأثيرات مختلفة سواء مادية أو سياسية، تأخذها في مسارات بعيدة كل البعد عن حقوق الإنسان والديمقراطية.
في السطور التالية سنتطرق إلى صناعة تفريغ الديمقراطية وحقوق الإنسان من مضمونهما واستخدامهما كأداة للضغط وفرض الإرادة، إن جاز وصفها بذلك، ودور الجماعات التي تؤثر في صناعتهما وتوجهاتها في الغرب، والتركيز على دور جماعة الإخوان المسلمين، والمتناقضات التي وقع فيها المسؤولون عن هذه الصناعة، نتيجة السير وراء أكاذيب الإخوان وادعاءاتهم المضللة. ومن أجل تحقيق ذلك تنقسم تلك الدراسة إلى أربعة أجزاء نجيب في الأول منها عن السؤال التالي: هل يؤمن الإخوان المسلمون بالديمقراطية؛ بمفهومها الغربي، القائم على الانتخابات وتداول السلطة، وحق الشعب في الحكم. وفي الجزء الثاني على الدور الذي لعبته أحداث الحادي عشر من سبتمبر على التقارب بين الولايات المتحدة والإخوان. وفي الجزء الثالث نفصل كيف أصبح ما يسمى “الربيع العربي” مرحلة جني الثمار لذلك التقارب. وفي الجزء الرابع نشرح كيف وثبت ثورة 30 يونيو في مصر ضد حكمهم وبداية انهيار مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة.
الغاية تبرر الوسيلة
في البداية يجب طرح السؤال التالي: هل يؤمن الإخوان المسلمون بالديمقراطية؛ بمفهومها الغربي، القائم على الانتخابات وتداول السلطة، وحق الشعب في الحكم؟
فمن المعروف أن الديمقراطية بمفهومها الغربي الحديث، تعني وجود حياة حزبية وعملية سياسية وانتخابات، ينتج عنها برلمانات تمارس حق التشريع، كل تلك العملية التي يكون للشعب والناخب الكلمة العليا فيها. فحسن البنّا المؤسس للجماعة في عام 1928، كان يرى في الحياة الحزبية والانتخابات، التي هي جوهر العملية الديمقراطية، شراً مطلقاً، فهي تعني المنافسة التي ستؤدي إلى تشرذم الأمة الإسلامية، وستفسد على الناس حياتهم، كما أنه يرى في فكرة الائتلاف بين أكثر من حزب فكرة غير مقبولة، لأنها ستؤدي إلى عدم الاستقرار، لأنه من وجهة نظره، الصراع ما بين الأحزاب داخل الائتلاف أمر حتمي لا مفر منه، ولذا يرى البنّا ضرورة أن يكون هناك حزب واحد يتمتع بالإجماع،[1] ولكن المفارقة التي تعبر عن ازدواجية الإخوان وبراغماتيتهم، تجلت في حديث البنّا حول فكرة الحزب الواحد، عندما يستشهد بـاثنين هما: هتلر وموسليني، وكيف أن حكم الفرد بحزبه الواحد كان العامل الرئيسي في نهضة كل من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية كما كان السبب في نكبتهما ودمارهما[2] وقبل أن نترك البنّا ونستعرض مواقف آخرين، يتضح هنا براغماتية عقلية الإخوان المسلمين وازدواجيتها وانتهازيتها، فالبنّا نفسه الرافض لفكرة الديمقراطية والانتخابات قد ترشح للانتخابات مرتين، الأولى في عام 1942 وتراجع عن الترشح؛ بصفقة مع حكومة الوفد في ذلك الوقت، والثانية في عام 1944 ترشح ولكنه لم ينجح[3].
بعد ذلك ومع سقوط الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات، والتطورات والتغيرات الحادة، التي صاحبت ذلك على مستوى الساحة الدولية، أهمها انفراد المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لقيادة النظام العالمي، وإطلاق عمليات الإصلاح والتحول السياسي لتركة الاتحاد السوفييتي في دول أوروبا الشرقية، التي يمكن تسميتها “الدمقرطة”، هنا التقط الإخوان الموجودون في الغرب تلك الإشارة، وقاموا بتقديم أنفسهم، كفريق يؤمن بالديمقراطية والانتخابات، والحريات وحقوق الإنسان، ويمكنهم القيام بمهمة الدمقرطة للعالم العربي، في حال وصولوهم إلى السلطة في العالم العربي، وبأنهم سيكونون حلفاء يمكن للغرب الاعتماد عليهم، ويأتي راشد الغنوشي على رأس من طوروا هذه الفكرة، فالغنوشي روّج لفكرة أن الديمقراطية في الأساس هي من الإسلام، وهي المعادل لفكرة الشورى وأن الغرب قد استخدمها، وإعادة استخدام المسلمين لها أمر لا يوجد به أي مشكلة، وحتى لا يخسر جمهوره من الإسلاميين والمؤمنين بأفكارهم، روّج لإمكانية استخدام الديمقراطية كوسيلة لتطبيق الشريعة عن طريق النضال الديمقراطي، أي عن طريق الانتخابات، ففي حال استحوذ الإسلاميين على الأغلبية، طبقاً لمبدأ الديمقراطية سيتيح لهم السيطرة على الأمور، وعلى رأسها البنية التشريعية التي ستمكنهم في النهاية، من تغيير نظام الدولة وتطبيق الشريعة[4]. وهذا يوضح مرة أخرى حجم البراغماتية والانتهازية الإخوانية ومدى التلاعب بالقيم والمفاهيم، فعلى الرغم من التناقض الكبير في المضمون والتطبيق بين فكرة الشورى الإسلامية والديمقراطية بمنظورها الغربي، فإن الإخوان روّجوا لها وصبغوها بصبغة إسلامية، في خطاب يعبر عن ازدواجيتهم المعروفة، باستخدام لغة مخاطبة للغرب، تختلف عن مخاطبة أتباعهم، الأمر الذي وصل بهم إلى اختراع مفهوم ومصطلح جديد وهو “الشورقراطية”[5].
١١ سبتمبر: التمكين
مثلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وحالة الفوضى والتخبط اللتان نشأت عنهما، في تعامل الولايات المتحدة والغرب، مع الإسلام، فرصة جديدة لا تعوض بالنسبة إلى الإخوان المسلمين، على غرار ما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فالولايات المتحدة التي وجدت نفسها أمام معضلة جديدة، تتمثل في الحاجة إلى وجود خطاب واستراتيجية جديدة، تستطيع من خلالهما مخاطبة الشارع في الدول الإسلامية، من أجل تحسين صورتها المتدهورة، للحصول على دعم المجتمعات المسلمة لحروبها على الإرهاب.
في هذا السياق، أطلقت الولايات المتحدة عدداً من المبادرات والخطط، ففي عام 2003 أطلق جورج بوش الابن خلال خطابه بجامعة ساوث كارولينا، خطة لمنطقة تجارية حرة بين دول الشرق الأوسط والولايات المتحدة، بهدف إحداث تنمية ونشر الديمقراطية في الدول العربية[6]، وفي عام 2004 أطلق مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط، ليصبح مترامي الأطراف، من أفغانستان ووصولاً إلى المغرب، باستخدام أدوات الإصلاح الديمقراطي وحقوق الإنسان، ووجدت مبادرات بوش، صداها في العالم العربي، من خلال انطلاق سباق ماراثوني، لمبادرات الإصلاح، على رأسهم مبادرات جماعة الإخوان المسلمين والدول الداعمة لها، من أجل تقديم مبادرات تتماهى مع الرؤية الأمريكية للتغيير في المنطقة، والاستمرار في تقديم أنفسهم كشركاء ورعاة لمشروع الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة[7].
وسنستعرض هنا اثنتين من تلك المبادرات، التي صدرت في غمار ماراثون الشرق الأوسط الكبير:
١- مبادرة الإخوان المسلمين للإصلاح (مارس 2004)
واستهدفت مبادرة الإخوان المسلمين للإصلاح المحاور التالية: الإصلاح السياسي، والإصلاح القضائي، وإصلاح النظام الانتخابي، والاقتصادي، والتعليم، وإصلاح الأزهر، ومكافحة الفقر، والإصلاح الاجتماعي، والمرأة، والأقباط، والمجال الثقافي، والسياسية الخارجية.
ومن أهم النقاط والأفكار التي وردت في تلك الوثيقة:
شكل الدولة والديمقراطية “إننا نؤكد تمسكنا بنظام الدولة بكونه نظاماً جمهورياً برلمانياً دستورياً ديمقراطياً في ظل مبادئ الإسلام، وجوانب الإصلاح الشامل لن يتحقق إلا من خلال الديمقراطية التي نؤمن بها”[8]، أثار وصف الإخوان للديمقراطية، الكثير من اللغط، فالإشارة إلى الديمقراطية متبوعة بعبارة “التي نؤمن بها”، يوضح نيات الإخوان المسلمين، تجاه الديمقراطية التي لا يرون فيها، أكثر من وسيلة يتم استغلالها من أجل الوصول إلى السلطة، ثم الانقلاب عليها، كما فعل هتلر وموسوليني، اللذان حظيا بإعجاب مؤسس الجماعة حسن البنّا. وذلك دفع معهد السلام الأمريكي (وثيق الصلة بالكونغرس)، في تقريره بعنوان “الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط: المبادرات العربية” الصادر في عام 2005، يتساءل كيف ستتمكن جماعة الإخوان من التوفيق بين موقفها بشأن تنفيذ أحكام الشريعة والتزامها بالإصلاح الديمقراطي؟[9].
تحت غطاء الإصلاح السياسي، استهدف الإخوان المؤسسات العسكرية (الجيش والشرطة)، من خلال تقديم مقترحات للسيطرة عليها، بتعيين مدنيين – بطبيعة الحال سيكونون موالين لهم- على رأس تلك المؤسسات، والتقليص من صلاحيات هؤلاء، من أجل ضمان فرض السيطرة الكاملة على الدولة، وضمان عدم وجود مؤسسات قادرة على التصدي لمخططاتهم، وحماية الشعب، على غرار ما حدث في مصر في عام 2013، عندما تدخلت المؤسسات العسكرية في مصر بناء على مطالب الشعب لحماية الدولة، من مخططات استيلاء الإخوان المسلمين على الدولة.
المرأة: لم يقدم الإخوان المسلمون توضيحات لإصلاح مشكلات المرأة وحلها، الكثيرة جداً والتي بلغت حد التعقيد، واكتفوا بإشارات عامة؛ مثل أنها نصف المجتمع، حتى عند الإشارة لأحقية المرأة في ممارسة العملية السياسية، كان هناك شرط أن يتم ذلك، بطريقة تتناسب مع كونها امرأة، فيكون ذلك دون “ابتذال”، كما يمنع على المرأة تولي الإمامة الكبرى وما في حكمها؛ من المناصب القيادية العليا بما فيها رئاسة الجمهورية والمناصب الأخرى المشابهة كرئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان وهكذا…[10].
الأقباط: لم تقدم الوثيقة أي ضمانات من الممكن أن تزيل تخوفات الأقباط، من فكرة حكم الإخوان المسلمين وتطبيق الشريعة، ولم تقدم ما يضمن لهم أن يكونوا مواطنين؛ يتمتعون بحقوق مواطنة واضحة مثل غيرهم من المسلمين في ظل دولة يحكمها الإسلاميون[11].
٢- إعلان الدوحة من أجل الإصلاح والديمقراطية (يونيو 2004)
صدر إعلان الدوحة للإصلاح والديمقراطية، بعد مؤتمر مدته يومان، استضافه مركز دراسات الخليج في جامعة قطر، ترأسه المصري سعد الدين إبراهيم، الذي لعب دوراً كبيراً في الترويج لمشروع الإخوان المسلمين، لدى الغرب بعد الحادي عشر من سبتمبر[12] وتأتي أهم مخرجات هذا المؤتمر التي تضمنها إعلان الدوحة على النحو التالي:
استخدام الديمقراطية كوسيلة من أجل التغيير، من خلال تغيير أشكال أنظمة الحكم كلها الموجودة في المنطقة، الملكية والجمهورية.
الحد من صلاحيات المؤسسات العسكرية الموجودة في بلدان المنطقة، وإزاحتها تماماً عن المشهد، وضمان السيطرة عليها.
وهنا نجد سمة تطابق لا يمكن أن تخطئه عين، بين مبادرة الإخوان للإصلاح وإعلان الدوحة، فكلاهما يهدف إلى استخدام الديمقراطية، من أجل إحداث تغييرات شاملة، تضمن صعود الإخوان المسلمين وسيطرتهم على الحكم، والقضاء على المؤسسات الوطنية، على رأسها المؤسسات العسكرية، التي يمكن أن تواجه مشروعاتهم في السيطرة على بلدان المنطقة[13].
وبالفعل وعلى الرغم من تخوّفات الولايات المتحدة الأمريكية من الإخوان المسلمين، وتاريخهم كجماعة أصولية راديكالية، فإن المجموعات الضاغطة التابعة للإخوان المسلمين نجحت في إصدار العديد من التوصيات من المراكز المهمة، التي يُقدرها صناع القرار في الولايات المتحدة، مثال على ذلك ما جاء في تقرير معهد السلام ) وثيق الصلة بالكونغرس)، الذي صدر في جزأين عام 2005، فعلى الرغم من تشكك المعهد في نيات الإخوان المسلمين حيال الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنه أوصى في النهاية صناع القرار في الولايات المتحدة بالتعامل معهم، وهنا نموذج من هذه التوصيات:
١- يجب أن تخاطب الولايات المتحدة الأمريكية الأحزاب الإسلامية على أسس معيارية، فقد ظهرت الأحزاب الإسلامية في المنطقة برمتها، كفاعلين رئيسيين، وكفائزين محتملين عند السماح لهم بالتنافس بلا قيود، ويطبق بعض هذه الأحزاب برامج محافظة، ويعد بتطبيق الشريعة، ومع ذلك فإن معظمها عملي، ولديه مرونة في الحد الذي سيصل إليه في تطبيق الشريعة[14].
٢- إن التقارب مع دعاة الإصلاح الإسلاميين المعتدلين يعد أمراً أساسياً، ذلك بالنظر إلى شعبية الإسلاميين الواسعة، فلا يمكن للولايات المتحدة أن تواصل الدعوة إلى التغيير الديمقراطي في المنطقة، مع تجاهل واحدة من أهم القوى السياسية نفوذاً[15].
عكست هذه التقارير حالة من التخبط، فيما يخص السياسية الأمريكية، تجاه الإسلاميين وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، ففي الوقت الذي تتساءل فيه هذه التقارير، عن كيفية وفاء الإسلاميين بالتزاماتهم، تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتعارض المحتمل مع مسألة تطبيق الشريعة، في حال وصول تلك التيارات إلى السلطة، ولكنها في النهاية تعود وتوصي صنّاع القرار بضرورة التعامل معهم.
الربيع العربي: السيطرة وجني الثمار
وبالفعل نجح الضغط الغربي على الأنظمة العربية؛ بقيادة الولايات المتحدة، في فتح الطريق أمام الإخوان المسلمين للوصول إلى الحكم، فوصول الإخوان إلى السلطة، لم يبدأ كما يعتقد بعضهم مع اندلاع الاحتجاجات التي شهدتها الدول العربية، خلال ما يسمى “الربيع العربي” ودعم إدارة أوباما له، الأمر بدأ منذ أن اعتمد الغرب على الإخوان المسلمين كشريك في الحرب على الإرهاب، بعد 11 سبتمبر كما أوضحنا في الفقرات السابقة.
في عام 2005 نجح الإخوان المسلمون في مصر، للمرة الأولى في تاريخ الجماعة؛ في الحصول على 88 مقعداً في انتخابات مجلس الشعب، وبدأ الإخوان بتبنّي لغة أكثر براغماتية لطمأنة الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال؛ الإخوان الذين كانوا دائمي مهاجمة إسرائيل واتفاقية السلام التي أبرمها الرئيس السادات، والتي كانت أحد الأسباب المباشرة لقتله على يد الإسلاميين، في عام 2005 صرح محمد مهدي عاكف مرشد الإخوان لوكالة أسوشيتدبرس “أن الإخوان لن يسعوا إذا تسنى لهم الوصول إلى الحكم أن يغيروا سياسة مصر الخارجية، ومن ضمنها احترام معاهدة السلام مع إسرائيل”[16].
فالأنظمة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، في ذلك التوقيت؛ كانت تنظر إلى تجربة حزب العدالة والتنمية في حكم تركيا، بقيادة أردوغان، على أنها تجربة إسلامية رائدة تتماشى مع القيم الغربية للديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت تتطلع إلى تكرار ذلك النموذج في العالم العربي، عن طريق الإخوان المسلمين، الذين أظهروا أنفسهم بمظهر المؤمن بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمر الذي أثبت فشله تماماً مع مرور الوقت، وأصبح حكم الإسلاميين في تركيا، أكبر مصدر تهديد على أمن الغرب نفسه وخصوصاً الاتحاد الأوروبي، بعد ما انقلب أردوغان على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان كلها، وعلى قيم الجمهورية العلمانية التي أسسها كمال أتاتورك. وفي الدول العربية رأينا كيف لم يستطع الإخوان، أن يخفوا حقيقتهم مدة طويلة، فبمجرد استحواذهم على السلطة سعوا إلى فرض سيطرتهم على جميع مفاصل الدولة، وإقصاء غير المنتمين إليهم، وعلى رأسهم التيارات العلمانية واليسارية، التي وقعت في فخهم وقامت بالترويج لهم، وساعدتهم على الوصول إلى السلطة.
الانهيار وتصدير الأزمات
كانت بداية انهيار مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة، في مصر في عام 2013 عندما خرجت الملايين لتعلن عن رفضها لممارسات الإخوان الإقصائية، وانقلابهم على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وواجهت مصر صعوبات جمة نتيجة، لهذه الخطوة، بعد أن قامت تركيا وقطر بالتنسيق مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، بحملات تحريض ضد دول الاعتدال، خصوصاً ضد مصر، والإمارات والسعودية، لتسويق وترويج ما حدث في مصر، على أنه انقلاب عسكري على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومفهوم الانتقال السلمي للسلطة[17]، واتهام الإمارات بقيادة ثورة مضادة ضد الربيع العربي، وضد آمال الشعوب التي شاركت فيه، وفي الحقيقة الربيع العربي، رغم عدالة فكرته، اتضح أنه وسيلة، استغل بها الإخوان وداعموهم من القوى الإقليمية، تطلعات وطموحات الشعوب، للسيطرة على مقدرات المنطقة، ونهب ثرواتها، وإخضاعها من خلال جعلها جزءاً من خلافة عثمانية بائدة، يحلم أردوغان ورفاقه من الإخوان المسلمين؛ بعودتها مرة أخرى؛ على حساب الشعوب العربية، وهذا يفسر لنا سبب الكراهية والهجوم الشديد، الذي تشنه هذه الدول على دول الاعتدال على رأسهم مصر والإمارات.
وفي ظل حالة الفشل الكبير التي يعيشها مشروع الإخوان المسلمين، وسقوطه المروع في مختلف دول المنطقة، ووسط حالة الانقسام والتناحر التي يعيشها قيادات التنظيم الدولي للإخوان فيما بينهم[18]، يلجأ الإخوان إلى تصدير أزماتهم للخارج، عن طريق استهداف دول محور الاعتدال، عبر منظومة حقوق الإنسان، فيما يلي نستعرض بعض المواقف التي استهدف فيها الإخوان المسلمون، مؤخراً، دول محور الاعتدال، عبر ورقة حقوق الإنسان والديمقراطية:
أولاً: في 12 مارس من هذا العام، وخلال الدورة 46 لأعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تم إصدار بيان موقع من 31 دولة يدين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وكان من بين الموقعين على هذا البيان الولايات المتحدة، التي تتمتع بصفة مراقب في هذا المجلس، ما أكسب هذا القرار بعض الأهمية، وبالبحث وراء هذا القرار، نجد أنه تم إصدراه بناء على تقرير وتوصيات من 100 منظمة معنية بحقوق الإنسان، لم يتم الكشف عن أسمائها، خشية الملاحقة كما يدّعي من أصدر القرار، ولكن بتتبع المنظمات التي أعلنت اشتراكها في هذا القرار، نجد بصمات الإخوان المسلمين واضحة بقوة وفيما يلي رصد لتلك المنظمات:
١- مركز القاهرة لحقوق الإنسان الذي يديره بهي الدين حسن، الذي يتخذ من جنيف مقراً له، والذي لا ينكر علاقاته بالإخوان المسلمين، وباستخدامه ورقة حقوق الإنسان، للدفاع عن الإخوان المسلمين، واصفاً ذلك بالموقف الإنساني[19].
٢- منظمة العفو الدولية- أمنستي إنترناشونال، التي تشغل فيها ياسمين حسين زوجة الإخواني وائل مصباح، منصب قسم المعتقدات وحقوق الإنسان[20].
٣- منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي DAWN التي تذكر في موقعها أنها معنية بحقوق الإنسان في مصر والإمارات والسعودية، دون باقي دول العالم العربي، وتذكر المنظمة على موقعها صراحة، بأنها تستهدف تلك الدول نتيجة لعلاقات هذه الدول الوطيدة بالولايات المتحدة، وبحكم وجود مقر المنظمة في العاصمة واشنطن، فإنها تسعى للتأثير في مصالح الدول المذكورة في الولايات المتحدة[21]، ويذكر أن مؤسس هذه المنظمة هو الصحفي الإخواني المنشق جمال خاشقجي، ويضم مجلس أمناء هذه المؤسسة، اثنين من الشخصيات الوثيقة الصلة بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهما: نهاد عوض- المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية CAIR، تلك المؤسسة التي ينظر اليها كذراع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في الولايات المتحدة، وهي وثيقة الصلة بحركة حماس؛ المدرجة على قوائم الإرهاب الأمريكية، وتوكل كرمان، الناشطة الإخوانية اليمنية الحائزة على جائزة نوبل، وهي من رموز الإخوان المسلمين في الربيع العربي، والجدير بالذكر أن كرمان دائمة التحريض على استخدام العنف والقوة، ضد الأنظمة الحاكمة، آخرها تحريضها ضد النظام التونسي، بعد سقوط مشروع الإخوان في تونس.
٤- منظمة “هيومان رايتس ووتش”، فطبقاً لحديث سعد الدين إبراهيم الذي كان عضو مجلس أمناء “هيومان رايتس ووتش”، وعراب مشروع الإخوان في المنطقة، ذكر أن “هيومان رايتس ووتش” تعمل بالتنسيق مع منظمة العفو الدولية – أمنستي إنترناشونال، ويشوب عملهم والتقارير الصادرة عنهم عدم الشفافية والمصداقية، ضارباً مثالاً بالتقارير المتعلقة بفض اعتصام رابعة عام 2013، التي جاءت متحيزة لخدمة مصالح الإخوان.[22]كما أن هيومان رايتس ووتش، تضم العديد من كوادر الإخوان، فالمسؤول عن متابعة الملف المصري هو الإخواني عمرو مجدي، وسبقته سلمى أشرف عبدالغفار، بنت القيادي الإخواني أشرف عبدالغفار؛ المدان في قضية التشكيل العسكري للإخوان بجامعة الأزهر، التحقت عبد الغفار بهيومان رايتس ووتش؛ بعد تركها العمل بمنظمة “الكرامة لحقوق الإنسان” التي يرأسها القطري عبدالرحمن النعيمي، ومقرها جنيف، بسبب وضع الأخيرة على قائمة الإرهاب الأمريكي، وتشغل عبدالغفار حالياً منصب مدير منظمة هيومان رايتس مونيتور ومقرها لندن، ولكنها تقيم في تركيا.[23]
٥- مبادرة الحرية، التي أسسها في الولايات المتحدة الأمريكية الإخواني محمد سلطان، ابن القيادي الإخواني صلاح سلطان، وهو أمريكي الجنسية، وكانت قد أفرجت السلطات المصرية عن محمد سلطان، بعد تنازله عن الجنسية المصرية، وقد تمت إدانته في القضية التي عرفت إعلامياً بـ “غرفة عمليات رابعة”، وينشط سلطان ورفاقه من خلال تلك المبادرة الإخوانية، التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، في أروقة الكونجرس ووزارة الخارجية؛ من أجل مد هذه المؤسسات بتقارير متحاملة، من أجل الضغط على مصر[24].
ثانياً: في الـ 16 من سبتمبر أصدر البرلمان الأوروبي، قراراً يدين فيه أوضاع حقوق الإنسان في الإمارات، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل دعا البرلمان الأوروبي إلى مقاطعة معرض إكسبو الدولي، الذي كان يفصله أيام قليلة بين صدور هذا القرار وافتتاحه، ما وضع الكثير من علامات الاستفهام حول توقيت هذا القرار، ومن يقف خلفه ومن المستفيد منه؟.
فذلك القرار الذي تمت الموافقة عليه بأغلبية بلغت 383 ورفضه 47، وامتنع عن التصويت 259[25]، ما يعكس حالة من الانقسام حول هذا القرار، وبفحص تركيبة البرلمان الأوروبي وقياداته، سنجد أن الغالبية محسوبة على الأحزاب الديمقراطية ذات التوجه اليساري، التي تعتبر الحليف القوي للإخوان المسلمين في أوروبا، فرئيس البرلمان الحالي هو الإيطالي ديفيد ساسولي المنتمي إلى الحزب الديمقراطي، ذلك الحزب المعروف بعلاقاته الوطيدة مع الإخوان المسلمين في إيطاليا، كما هلل لهذا القرار بعض منظمات حقوق الإنسان المحسوبة على التنظيم الدولي للإخوان، منها منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي DAWN، التي أثنت على القرار ودعت إلى مزيد من الإجراءات ضد الإمارات على لسان مديرتها التنفيذية سارة ويتسون[26]، ومنظمة فريدوم فورورد التي تعرف نفسه كجماعة ضغط، وبفحص موقعها على شبكة الإنترنت، ستجد أن نشاطها الرئيسي هو استهداف دول الاعتدال، بالتركيز على الإمارات والسعودية، وبإلقاء نظرة على فريق عمل تلك المنظمة، لن تجد إلا سيرة ذاتية لشخص يدعى سنجيف بيري يشغل منصب المدير التنفيذي[27]، ومنظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان” في البحرين ADHRB، التي تعرّف نفسها بأنها جزء من تحالف منظمات حقوقية يضم هيومان رايتس ووتش، ومشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED، ومنظمة العفو الدولية،[28] وقد شرحنا مدى نفوذ التنظيم الدولي للإخوان في هذه المنظمات، فكل هذا يفسر لنا الغموض الذي أحاط بهذا القرار وبتوقيت صدوره، ومن المستفيد منه.
الخاتمة
لعقود طويلة نجح الإخوان المسلمون؛ في التلاعب بأهم القيم التي يفتخر بها الغرب، وهي الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن أبرز مظاهر هذا التلاعب، هو اعتماد الدول الغربية على الإخوان لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، عبر مشاركتهم في الحرب على الإرهاب عقب 11 سبتمبر، غير مدركين أن جماعة الإخوان المسلمين وأفكارها المتطرفة، هي الحاضنة التي خرجت منها غالبية التنظيمات الإرهابية، فتنظيم القاعدة الذي قام بهجمات 11 سبتمبر الإرهابية، تم تأسيسه على أفكار سيد قطب، كذلك غالبية قياداته من جماعة الإخوان المسلمين أو منشقين عنها، لذا دعمهم قبل/بعد الربيع العربي للوصول إلى السلطة، أمر يبدو في غاية السذاجة.
فعدم قدرة المؤسسات الغربية؛ على تحري الدقة في المصادر التي تقدمها لهم التقارير حول أوضاع حقوق الإنسان، وكشف تحيزها وأهدافها، يدل على مدى نجاح الإخوان المسلمين، في اختراق تلك المؤسسات؛ وتأثيرها المتزايد في صناعة القرار بها، فالإخوان نجحوا في بناء شبكات من المنظمات والمؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان، في صورة أقرب لعمل شبكات غسل الأموال، التي تقوم بإنشاء عدد كبير من المؤسسات، للقيام بعمليات كثيرة ومعقدة بحيث لا يمكن تتبع مصادرها وكشف حقيقتها، هكذا عمل الإخوان فيما يخص حقوق الإنسان والديمقراطية، حتى صارت المؤسسات الغربية تعتمد على تقاريرهم وتتعامل معها بشكل مسلم به، دون القدرة على تتبع مصادر تلك المعلومات وحقيقتها، وما كان للإخوان المسلمين في الغرب القيام بذلك، لولا وجود ثغرات في البنية القانونية والتشريعية، تسمح لهم باستغلال القوانين، في الحرية والديمقراطية أسوأ استغلال.
فالطريقة التي يدار بها ملف حقوق الإنسان؛ والقرارات التي تصدر عن بعض المؤسسات الغربية، والتهديد بقطع المساعدات العسكرية أو الدعوات إلى المقاطعة، تستدعي إلى الذهن صورة المستعمر الغربي، التي تسيء إلى صورة الدول الغربية، التي تسعى إلى تحسينها في العالم الإسلامي منذ 11 سبتمبر [29].
فعلى سبيل المثال فيما يخص مصر، لا يمكن التركيز على مجموعة من السلبيات في مجال حقوق الإنسان فقط، وتجاهل التحديات والمخاطر التي تمر بها مصر، أو عدم الإشادة بالخطوات الإيجابية التي تقوم بها الدولة لتحسين هذا المجال، فمؤخراً أطلقت مصر الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، في خطوة تهدف إلى تحسين أوضاع الإنسان في مصر بناء على أسس شاملة[30]، وتبع ذلك الحكم ببراءة بعض منظمات المجتمع المدني في عدد من القضايا، ويأتي الحدث الأبرز عقب إطلاق تلك الاستراتيجية الوطنية، في إعلان الرئيس السيسي في الـ 25 من أكتوبر، بإلغاء حالة الطوارئ، الأمر الذي يمهد الطريق أمام العديد من الإصلاحات في المنظور القريب [31].
أما بالنسبة إلى الإمارات، فهي إحدى الدول الرائدة في مجال حقوق الإنسان، ليس لتمتعها بترسانة من القوانين التي تعني بحقوق الإنسان في المجالات المختلفة فقط، وتوقيعها على المواثيق الدولية في هذا المجال، بل لتطبيقها حقوق الإنسان وجعلها إحدى القيم المجتمعية، التي تمارس في الحياة اليومية، في مجتمع يتميز بالتعددية، والانفتاح والتسامح تجاه جميع الزائرين والمقيمين والمواطنين، فالتجربة الإماراتية في مجال حقوق الإنسان والتسامح، تجربة رائدة تخطت الحدود الإقليمية ووصلت إلى العالمية[32].
فمؤخراً وبالرغم من قرار البرلمان الأوروبي، تم انتخاب الإمارات لعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للفترة ما بين الأعوام 2022 و2024 بأغلبية ساحقة وصلت إلى 180 صوتاً من 193 صوتاً،[33] وهذا يطرح تساؤلاً لماذا لم تصوّت دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 ضد عضوية الإمارات في مجلس حقوق الإنسان الأممي، بناء على قرار البرلمان الأوروبي؟. هذا وحده كفيل بأن يعكس حالة التخبط التي تسود مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ويوضح مدى تأثير التنظيم الدولي للإخوان، والمجموعات الضاغطة التابعة له، التي تتخذ من الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية ستاراً لعملها، لتوظيف قرارات هذه المؤسسات لصالحها، واستهداف دول الاعتدال.