فاروق عطية
12ـ يدعي أنصار عبد الناصر أنه أول من قوّى النقابات العُمالية والمهنية. وللإيضاح نرصد الحقيقة في عجالة:
1ـ تسلسل الحركة العمالية والنقابية في مصر بدأت قبل الحرب العالمية الأولى بزمن، حيث ظهر عدد كبير من النقابات القوية التي كان معظمها نتاج نضالات العمال وبعضها أسسه الوطنيون لتعبئة الحركة العمالية خلفهم. وكانت أقوى النقابات هي نقابة عمال الترام والصنائع اليدوية وعمال السجائر والمطابع والمخابز.
بعد الحرب العالمية الأولى ومع نشأة الطبقة العاملة المصرية بدأت سلسلة من النضالات واجه فيها العمال استغلال رأس المال لهم. وبدأت الطبقة العاملة أولى تحركاتها على وجه الخصوص قبل 1919م في الشركات المملوكة للأجانب وفي قطاع الخدمات مثل شركة الترام والكهرباء. وتركزت مطالب العمال في تلك الفترة على زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل ومقاومة الفصل التعسفي والحق في الحصول على إجازة مدفوعة الأجر والحد من الجزاءات وتحسين المعاملة من قبل الملاحظين والاعتراف بنقاباتهم التي شكلوها للتفاوض نيابة عنهم. وخلال هذه الفترة كان العمال الأجانب في طليعة الحركة العمالية ونقلوا خبراتهم في التنظيم وخوض النضالات إلى صفوف العمال المصريين، وكانت نقابة لفافي السجائر أحد النماذج البارزة لهذا الدور.
في 1903م أضرب لفافو السجائر بالقاهرة ولم يستجب أصحاب العمل لمطالب العمال، وقاموا بتخفيض الأجور واستعانوا بالبوليس لتسيير عجلة الإنتاج. لم يشترك العمال المصريون والسوريون في الإضراب مما أدى إلى هزيمة العمال اليونانيين بسبب انعزالهم. هذه الهزيمة دفعت العمال إلى تكوين نقابة تضم كل عمال السجائر. بعد إضراب ناجح في القاهرة في أكتوبر 1908م توسعت هذه النقابة وأصبحت نواة “الاتحاد الدولي لعمال السجائر والورق بالقاهرة” وكانت مفتوحة لجميع الجنسيات كما ضمت العمال غير المهرة في الصناعة. وصلت عضوية النقابة في القاهرة لأكثر من 1500 عضوا وكونت صندوقا للمساعدة المتبادلة من اشتراكات الأعضاء.
في 13 أكتوبر 1908م أرسل عمال ترام القاهرة خطابا إلى مدير الشركة في مصر وإلى الصحافة يذكرون فيه مطالبهم ويهددون بالإضراب. شملت المطالب تخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور وإعادة العمال المفصولين وتكوين لجنة من العمال والإدارة للتحقيق في الجزاءات والتعويض عن إصابات العمل، كان العمال يعانون من سوء معاملة المفتشين والملاحظين الأجانب لهم والتمييز ضدهم في الترقي. ورفضت الشركة التفاوض مع مندوبي العمال، فبدأوا إضرابا كبيرا شارك فيه 1600 عامل جلسوا على القضبان أمام عربات الترام حتى لا تتحرك. استطاعت الشركة بمساعدة الشرطة انهاء الإضراب ولكنها في النهاية وافقت على مطالبهم حتى لا يتكرر الإضراب. في 8 مارس 1909م شكل عمال الترام (السائقون والمحصلون وغالبيتهم من المصريين) نقابة لهم. وكانت مفتوحة لكل عمال الترام بصرف النظر عن جنسيتهم. كان عمال الترام في 1911م يشكلون طليعة الطبقة العاملة واقتدى بهم عمال كثيرون في مهن أخرى وأحرزوا مكاسب كبيرة بالنسبة لغالبية العمال المصريين.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914م توقف أي نشاط سياسي أوعمالي يمكن أن يهدد الأمن العام، فُرض قانون (التجمهر) الذي حرم اجتماع أكثر من خمسة أشخاص وأعلنت الأحكام العرفية والرقابة على الصحف. وفي ديسمبر 1914م أعلنت الحماية البريطانية على مصر. وبدأت الحركة العمالية تدخل فترة من الخمود.
كان النقص الشديد في المواد الغذائية وتزايد الأسعار بنسبة وصلت إلى 200% بحلول عام 1919م، وانخفاض الأجور الحقيقية من العوامل التي دفعت إلى إحياء النشاط العمالي بعد نهاية الحرب. عاد عمال السجائر إلى الإضرابات عام 1918م وبثوا الحياة في نقابتهم التي أنشأوها قبل ذلك، ثم تلاهم بشهور قليلة عمال الترام. ومع بداية عام 1919م بدأت الحركة النقابية في الظهور من جديد مع صعود الحركة العمالية.
في مارس 1919م بدأت الصناعة في الانكماش وتزايدت البطالة وارتفعت الأسعار ارتفاعا جنونيا، وتزامن ذلك مع رفض الحكومة البريطانية الاعتراف بالوفد المصري المطالب بالاستقلال والقبض على سعد زغلول ونفيه إلى مالطة. جاءت الثورة الوطنية 1919م لتهز نظام الاحتلال، واستطاع العمال تنظيم أنفسهم بسرعة والقيام بالإضرابات. وكان عمال الترام والسكك الحديدية في طليعة الحركة العمالية من جديد.
في 10 مارس 1919م انطلقت موجة من المظاهرات في المدن المصرية ووجهت بالقمع الوحشي من قبل الشرطة. في 11 مارس توقفت عربات الترام نتيجة لإعلان العمال الإضراب الذي تمتع بتأييد كبير من الجمهور. استمر إضراب عمال الترام طوال شهر مارس وجزء من إبريل وتمت التسوية بتلبية مطالب العمال بزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل ومكافأة نهاية الخدمة.
في الشهور الأولى من عام 1919م كان عمال عنابر السكة الحديد قد قدموا مطالبهم بمضاعفة الأجور والحد من عمليات الفصل التعسفي والجزاءات وإجازة الحج مدفوعة الأجر، رفضت الشركة مطالب العمال ونقلت سبعة منهم. أعلن عمال العنابر الإضراب فتوقفت أعمال الصيانة وقطع العمال خطوط السكك الحديدية بالقرب من امبابة. في اليوم التالي نظموا مظاهرة ضخمة انضم إليها عمال المطبعة الأميرية والعديد من سكان منطقة بولاق وساروا يحملون أعلاما متجهين إلى قلب المدينة. وقرب كوبري أبو العلا أطلقت القوات البريطانية النار على المظاهرة فانضم عمال الحركة إلى الإضراب. ولم يعد العمال إلى العمل إلا بعد إطلاق سراح سعد زغلول وتلبية مطالبهم. كما قام عمال مصنع الحوامدية للسكر بإضرابهم الذي وقف أعيان البلد والبوليس في وجه محاولة المتظاهرين لاحتلال المصنع. وبعد مرور أربعة شهور على أحداث مارس، كانت المطالب التي أحرزها العمال قد بدأت في التراجع. فقدم العمال في شركة الترام قائمة بالمطالب أصروا على الاعتراف بنقابة جديدة لهم اشترك فيها العمال المصريون مع العمال الأجانب جنبا إلى جنب.
في أغسطس 1919م بدأت موجة جديدة من الإضرابات صاحبها إحياء نقابات قديمة كان قد شكلها العمال وتكوين نقابات جديدة لمختلف القطاعات. وفي 1921م كان عدد النقابات 38 نقابة في القاهرة، 33 في الإسكندرية، و 18 في مدن قناة السويس، وكانت أقوى النقابات هي نقابات المرافق مثل شركة الترام والغاز والكهرباء والماء. ظهر أول اتحاد لنقابات العمال عام 1912م وذلك قبل ظهور قانون نقابات العمال (القانون 85 لسنة 1942م)، والانضمام للاتفاقية الدولية للحرية النقابية وحماية حق التنظيم 1948م.
2ـ تم تأسيس العديد من النقابات المهنية قبل انقلاب 1952م. تعد نقابات المحامين أقدم النقابات المهنية في مصر حيث تأسست عام 1921م. "كان يوجد في مصر نقابة للمحامين أمام المحاكم المختلطة وأخري للمحامين أمام المحاكم الشرعية وأخري لكتبة المحامين". كما تأسست نقابة الصحفيين عام 1941م، وتأسست نقابة المهندسين عام 1946م، وتأسست كل من نقابة الأطباء البشريين، نقابة أطباء الأسنان، نقابة الصيادلة ونقابة الأطباء البيطريين ونقابة الزراعيين عام 1949م.
3ـ مما سبق ايضاحه نرى أن كفاح العمال وتأسيس نفابات قوية لهم تحقق مطالبهم في الحياة الكريمة وتعويضهم عن اصابات العمل كان قديما وليس لجمال عبد الناصر ريادة في إنشائها. بل يمكننا تأكيد أنه هو من أضعف النقابات العمالية واستغل العمال لتحقيق مطامعه السياسية للانفراد بالحكم في أبشع ديكتاتورية، وحول النقابات لتكون مع النظام وضد مصالح العمال.
ـ في 12 أغسطس 1952م بعد مرور شهر واحد من الانقلاب، قامت ادارة مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج، بنقل مجموعة من العمال من مصانع كفر الدوار إلى كوم حمادة بدون إبداء أسباب، مما أثار العمال وأعلنوا الإضراب عن العمل وقاموا بوقفة احتجاجية لإعلان مطالبهم منددين بحركة نقل العمال ومطالبين برفع الأجوروتخفيض ساعات العمل وتوفير رعاية صحية بعد أن أصيب الكثير منهم بالربو والأمراض الجلدية بسبب العمل. ظن العمال أنه بقيام حركة الجيش قد أصبح الجو العام مناسبا لتحقيق مطالبهم ونيل حقوقهم. اجتمع ستة آلاف عامل بفناء المصنع مضربون عن العمل، سرت شائعة بأن اللواء «محمد نجيب» الذي تولى الحكم منذ أيام سيأتي ليسمع شكواهم؛ فاشتعلت هتافات العمال «يحيا اتحاد العمال» «مطالب العمال عادلة» «يعيش محمد نجيب» «يحيا القائد العام». وصل صدى هذه المظاهرات لمراكز الشرطة وقوات الجيش بالمدينة. خرج العمال للشوارع لينضم إليهم عمال من المصانع الأخرى، وعندما وصل الحشد إلى ترعة المحمودية، خرجت رصاصة من مجهول تجاه قوات الجيش ليسقط أحد العساكر، وتحول المشهد إلى ما يشبه الصدام بين قوات الجيش والشرطة من جهة، والمتظاهرين من جهة أخرى؛ ليسقط العديد من العمال وتبدأ الاعتقالات والاتهامات التي توجه للعمال بالتخريب ومهاجمة قوات الجيش بل وقيادة مؤامرة تستهدف الحركة، وكان البكباشي جمال عبد الناصر وزيرا للداخلية في ذلك الوقت. أعقبها محكمات للمتسبيين في هذه الأحداث؛ وطلب النيابة الإعدام في حق المتهمين.
كان«محمد مصطفى خميس» و«محمد عبد الرحمن البقري» الذين كان لهما دورا أساسيا في قيادة المظاهرات ضمن المقبوض عليهم. لم يكن عمر «خميس» أو «البقري» قد تجاوز التاسعة عشرة عندما صدر في حقهما حكما عسكريا بالإعدام شنقا بعد أربعة أيام من المحاكمة، تحديدا في 7 سبتمبر 1952م. كانت المحاكمة علنية في نادي كفر الدوار الرياضي، الذي تجمع فيه 1500 من عمال المصنع ليشاهدوا الأحكام في حق زملائهم ممن وصفتهم الصحف بالخونة، وتم الحكم على آخرين بالأشغال الشاقة ما بين 8 أعوام و15 عاما في محاكمة هزلية تحاكي محاكمة الإنجليز لحادثة دنشواي الشهيرة. وافق مجلس القيادة على الحكم، وصدّق نجيب عليه بعد أن أقنعه عبد الناصر بضرورة ردع التمرد حتي لا يجرؤ أحد على تكرار ما حدث رغم اقتناعه ببراءة الرجلين البائسين.
ـ أزمة مارس 1954م بين الرئيس الأسبق محمد نجيب الذي اعتبر البرلمانية هي الطريق الأمثل للحكم وأن الدور الأساسي للمؤسسة العسكرية هو الحفاظ على الأمن والدفاع عن الوطن بعيدا عن السياسة، ومجلس قيادة الثورة الذي تبنى استمرار الحكم العسكري بعيدا عن الحياة البرلمانية. في 24 فبراير 1954م قرر نجيب الاستقالة من رئاسة مجلس قيادة الثورة، وفي اليوم التالي أعلن مجلس القيادة تعيين عبد الناصر رئيسا للوزراء واستقالة نجيب من جميع مناصبه. استبعاد نجيب أدى لاشتعال الموقف السياسي، وخرجت المظاهرات المطالبة بعودته، شاركت الأحزاب والقوى التي سعى النظام إلى تصفيتها، وأهمها الوفد والإخوان والشيوعيون، في هذه الحركة بكل ما أوتيت من قوة. وانتهت الأزمة مؤقتا باتخاذ عبد الناصر قرارا "بناء على تفويض من مجلس قيادة الثورة" بعودة نجيب رئيسا للجمهورية. وقد قوبل نجيب بمظاهرات تأييد حاشدة آنذاك. غير أن هذا التطور لم يحسم النزاع، فقد قامت قوات الشرطة باعتقال العشرات في أيام المظاهرات المطالبة بعودة نجيب والأيام التالية لعودته للحكم. وطالب نجيب بإطلاق سراح المعتقلين والتحقيق في وقائع الاعتداء على المتظاهرين.
اعتمد نجيب على التأييد الشعبي الواسع وظل يعقد اللقاءات الجماهيرية ويتصل بالنقابات المهنية والأحزاب والقوى المطالبة بالديمقراطية. كان الاتجاه الغالب لدى القوى المطالبة بالديمقراطية هو تصفية حركة الجيش وخروجه كليةً من الحياة السياسية والعودة إلى الثكنات. وهنا ظهر مجددا لجناح عبد الناصر أن عودة البرلمانية تعني نهاية دور العسكريين. اجتمع مجلس قيادة الثورة في 25 مارس وبعد مناقشات عاصفة حسم الموقف بصدور قرارات تضمنت السماح بقيام الأحزاب وحل مجلس قيادة الثورة في 24 يوليو "يوم انعقاد البرلمان المرتقب" وعدم السماح للمجلس بتشكيل حزب. وفور إعلان القرارات، تم الإفراج عن المعتقلين، وخاصة الإخوان المسلمين ومرشدهم العام، الذي زاره عبد الناصر في منزله فور الإفراج عنه. وكانت هذه الزيارة حاسمة في تغيير موقف الإخوان، حيث سمح لهم باستئناف نشاطهم في مقابل اتخاذ موقف الحياد من الأزمة.
كان الاتجاه الغالب للضباط هو رفض العودة إلى الثكنات، للحفاظ على أوضاعهم الجديدة المتميزة. عقب صدور قرارات 25 مارس رتبت (المخابرات الحربية بتخطيط عبد الناصر) مع صاوي محمد صاوي سكرتير عام اتحاد عمال النقل القيام باعتصام بزعم خوف العمال من فقدانهم مكاسب الثورة بشأن منع الفصل التعسفي. وساندت هيئة التحرير هذا التوجه. حيث قام الصاغ أحمد طعيمة ممثل النقابات في هيئة التحرير بالاتصال بالنقابات لدعوتها للاعتصام دفاعا عن الحركة. وقام أبناء اتحاد نقابات الصعيد بشل حركة المواصلات، ونزلوا إلى الشارع في مظاهرات تطالب بسقوط الحرية في 28 مارس. واشتركت قوات الحرس الوطني وهيئة التحرير في المظاهرات. وقام جنود البوليس الحربي بارتداء ملابس مدنية وشاركوا في المظاهرات، رافعين شعار (لا للديمقراطية) لينجحوا في تنظيم الاعتصام الأضخم منذ ثورة 1919م لتتحول الديمقراطية إلى صفعة علي وجه نجيب وأنصاره.
ـ في إطار سعي النظام إلى السيطرة على النقابات، تم تقويض النقابات المستقلة والعمل على إحلالها بنقابات موالية للنظام. وانتهى الأمر بفرض النظام سيطرته على هذه النقابات من خلال تعيين رؤساء النقابات من مجلس الثورة، وساعد على ذلك أن أعدادا كبيرة من الشيوعيين والقادة النقابيين كانوا في السجون. ثم إقرار قانون التوفيق في منازعات العمال الذي دشن مبدأ منع الفصل التعسفي بسبب النشاط النقابي، لكنه حرم العمال من حق الإضراب أو الامتناع عن العمل بأي شكل. وكان الرأي السائد داخل مجلس القيادة هو أن رأس المال الأجنبي يحتاج إلى الضغط على العمال من أجل تشجيع الاستثمار وتحقيق الاستقرار. وعندما أصبحت الحركة النقابية جزء من أجهزة الدولة سمحت الدولة بوجود اتحاد عام للعمال عام 1957م بعد أن فقدت الحركة العمالية حريتها النقابية.