عاطف بشاى
«احمل قيثارتك يا (خيرت) واعزف فى الشارع أمام الأوبرا وفى الميادين وغنِّ يا (شاكر) فى الملايين المحتشدة.. واصدح يا (حجازى) بقصائدك فى الطرقات، فالفنون لا تستقيل».
كتبت هذه العبارات فى مقال فى صحيفتنا الغراء «المصرى اليوم» قبل قيام ثورة «يونيو».. أستنكر فى المقال رد فعل المثقفين التنويريين من فنانين وروائيين وموسيقيين وشعراء على أثر تجاوزات آخر وزير للثقافة فى حكومة «الإخوان»، والذى استهل منصبه بالإطاحة بقيادات الوزارة، مُقرِّرًا إنهاء انتداب «د. أحمد مجاهد»، رئيس الهيئة العامة للكتاب، و«د. إيناس عبدالدايم»- وزيرة الثقافة الحالية- من رئاسة الأوبرا وقتها وما يعنيه ذلك من عداء للإبداع والتنكيل بالمعارضين، وبحسب تعبير الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، تدمير وتخريب الثقافة المصرية الوطنية لصالح مشروع الأخونة المعادى للدولة المدنية، وذلك لتحقيق الهدف الأسمى، وهو إقامة دولة الخلافة الدينية.
وبناء على ذلك، فقد أعلن «حجازى» استقالته من رئاسة تحرير مجلة إبداع، وقدم بهاء طاهر استقالته من المجلس الأعلى للثقافة.. وألغى «عمر خيرت» حفلًا له.. كما قرر عدم تقديم حفلاته بالأوبرا حتى تتم إقالة الوزير.. أما «هانى شاكر» فقد أعلن اعتزال الغناء فى الأوبرا نهائيًا.
وسبب استنكارى ورفضى قرارات المثقفين وقتها أن الاستقالة من مناصبهم وامتناعهم عن ممارسة فنونهم خطأ فادح، لأنهم بذلك يقدمون للوزير ما كان يريده بالضبط، فقد أعفوه من أن يبادر هو بإقالتهم وإلغاء نشاطهم.
والحقيقة أن المبدعين قد حققوا حلمى، فأشعلوا مصابيح التنوير والخلق والإبداع.. ورقصوا وغنوا وعزفوا للنهر المستباح والوطن الجريح ودماء الشهداء، واستجاب لهم العامة فى الشوارع والميادين، واندمجوا معهم فى تلاحم عبقرى، واندفعوا مع ترديد الأغانى الحماسية باقتحام وزارة الثقافة، وأغلقوها بالجنازير فى وجه القبح والتخلف والدمامة.. وقادوا كتيبة التمرد ليسهموا فى إشعال الثورة الجديدة.
وها هى الثورة الجديدة تنتفض فى إجلال وبهاء وكبرياء لتبعث القومية المصرية لتعبر عن هويتها التى أرادها المُكفِّرون والظلاميون أن تندثر تحت وطأة تراجع حضارى مقيت، فأكدت تلك الانتفاضة- من خلال الاحتفالية العظيمة برحلة الحضارة الفرعونية السامقة من «الكرنك» إلى «الأقصر» والرحلة التى سبقتها لموكب المومياوات من المتحف المصرى القديم إلى متحف الحضارة- أن الإبداع لا يموت، وثقافة التنوير لا تحتضر، وحرية التعبير والرأى والفكر لا يمكن لأعداء العقل سحقها، فحركة التاريخ تنحاز إلى المدنية، وتلفظ عناكب التخلف والجهامة.
لقد حان الوقت- هكذا تخبرنا رسائل البشارة لتلك الإنجازات التنويرية العظيمة- أنه ابتداء من الآن لن يتنازع الوطن فاشية الدجل والدمامة، ولن يسيطر علينا فقهاء وكُهان الردة الحضارية بأوراق التكفير الصفراء وكتب التحريم والتجريم والمصادرة وارتداء قشرة العصر، بينما الروح جاهلية، والنفس همجية، والأردية صحراوية.
لن يجرؤ الملتاثون على قتل تماثيل رواد التنوير أو تماثيل أجدادنا العظام أو اغتيال الكتب أو مصادرة الفنون الراقية.
سوف تعود مصر للمصريين- كما فى صيحة أستاذ الجيل «لطفى السيد» لا إخوان ولا سلفيين، وسوف تعود روح صناع عصر النهضة ترفرف فى سماء المحروسة «الطهطاوى» و«الإمام محمد عبده» و«الشيخ على عبدالرازق» وعميد الأدب العربى «طه حسين» و«قاسم أمين» و«هدى شعراوى».
أما رموز الاستنارة من الأجلاء، الذين سخروا أقلامهم لمجابهة أعداء الحياة، الذين حاولوا مصادرة وإقصاء وعينا وتاريخنا الحضارى باسم الدين- والدين منهم براء- إذا كانت مصر ممثلة فى دولتها التى تفخر بإنقاذها من براثن شياطين اغتيال البلابل على أغصان الحرية.. وخنق الشمس على مشانق الإرهاب.. وموت الحدائق والفصول والقصائد والفنون.. وطمس أضواء الحب وشموع الحرية ووهج الحضارة حتى كدنا نقترب من مشارف الدخول فى التوحش والتخلف والقبح والبشاعة وعصور البربرية والقمع وثقافة الهكسوس وقانون الغاب، حيث السماء من حجر وعيون القادمين من خارج الزمن من زجاج.
وحيث ألسنتهم تنطق بالورع والتقوى وقلوبهم تضمر الشر والطغيان- أقول للأعزاء رموز الاستنارة الكبار، الذين أسهموا بعلمهم وثقافتهم وحسهم الوطنى ووعيهم المستنير فى التصدى لطيور الظلام.. إنى أدعوكم كما سبق أن دعوت الفنانين والمثقفين قبل ثورة يونيو.. عاوِدوا حمل قيثارتكم وغنوا ورتِّلوا بأهازيج وأناشيد التنوير وبهجة واحتفاء الأقدمين بعيد «التبت» وحفاوة الحصاد وبذور الخصوبة والنماء.
وإذا كنا قد لملمنا أحزان أجدادنا بترميم الأجزاء المبعثرة من التماثيل المحطمة وإعادتها إلى الحياة.. فعلينا ألّا ننجرف إلى مُنازَلة فلولهم بالحجج والأسانيد.. أو الرد على ملاسناتهم وبذاءتهم.. وجهل فتاواهم وجدلهم وتخلفهم وردود أفعالهم المزرية تجاه احتفالنا بثورة التماثيل التى يرونها أصنامًا، فهم يسعدهم استدراجنا إلى مجادلتهم، التى تعنى فى النهاية وجودهم أندادًا يصارعوننا فى معركة انتزاع الوطن، والاعتراف بجدوى مناقشاتهم ومجادلة رموزهم المعاصرين والتراثيين منهم منذ عهود الجاهلية.
سوف تتوارى الخفافيش فى أوكارها.. ولن يجرؤوا بعد اليوم على رفع رؤوسهم القبيحة وحمل معاولهم الصدئة للانقضاض على تماثيل حضارتنا ورموزنا. سوف يمضون إلى مزبلة التاريخ، بينما نولى نحن أبصارنا فى اتجاه التنوير.
نقلا عن المصرى اليوم