عاطف بشاي
تتميز الشخصيات الدرامية التى يبتدعها أستاذنا الأديب الكبير «نجيب محفوظ» فى تجسيده لأبعادها الاجتماعية النفسية والإنسانية فى رواياته وقصصه القصيرة بأنها عابرة للأزمان، حيث يغوص من خلالها بعيدًا فى أغوار عميقة تشكل مستويات متعددة من مستويات الطرح الذى يحمل فى النهاية فكرًا يتجاوز المواقف المؤقتة أو محاكاة واقع اجتماعى محصور فى زمان ومكان بعينهما إلى آفاق أكثر رحابة وإنسانية.. إنه ينتقل من خلال هذه الشخصيات من الخاص إلى العام.. ومن الحاجات العابرة إلى المعانى الكبيرة.

ومن الواقع المعيش بثقله المادى وصراعاته الاجتماعية إلى عوالم متعددة وشواطئ أبعد أكثر ثراء تحتوى على دلالات وإيحاءات وإسقاطات ورموز واستنباطات وأحلام وخيالات وتهويمات واستشرافات وتنبؤات وقضايا تتجاوز هموم مجتمع معين فى حقبة زمنية معينة، وعذابات بشر بذواتهم الخاصة إلى أطروحات فلسفية وفكرية عميقة تشمل الوجود الإنسانى كله.. والشخصيات الدرامية التى تجسد تلك الرؤى المتفردة هى التى تدفع الأحداث إلى الأمام فى تتابع محكم وشيق.. وتقيم الصراع المحتدم يظللها بيان وبديع يصوغ عباراته البليغة التى لا تخلو من طرافة وممازحة راقية وأسلوب رصين.

والحديث عن التنبؤات التى تحملها روايات وقصص «نجيب محفوظ» يطول، فهى غزيرة تشى بعمق بصيرته وثراء موهبته. وعبقرية حدثه وبراعة منطقه الذى يصل بين الاستهلال والمحتوى.. المقدمة المنطقية ونهاية الأحداث.. الأسباب والنتائج.. ففى رواية «ثرثرة فوق النيل» التى نشرت قبل نكسة (1967) بشهور قليلة تنتهى بنبوءة حتمية تشير إلى أن هناك كارثة مروعة آتية فى الطريق.. فشلة العوامة من الحشاشين يمثلون أنماطًا مختلفة من مثقفى البرجوازية الصغيرة منهم نجم سينما «رجب القاضى» تتهافت عليه النساء المنحرفات.

وناقد أدبى شهير فاسد الخلق يمدح حينما يجزل له العطاء ويذم حينما تنحسر عنه الرشاوى.. وهو يعبر عن رأيه فى الحياه الضائعة المبالية التى تجمعهم داخل العوامة، وهى حياة خالية من الجدوى والمعنى والقيمة.. وتمضى بهم فى فراغ نفسى ومعنوى وابتذال جنسى وتبلد وجدانى واستهتار بكل القيم والمبادئ يعبر عنه هذا الناقد، مؤكدًا: «نحن لا ننتمى لشىء إلا هذه العوامة مادامت الفناطيس بحالة جيدة والحبال والسلاسل متينة الجودة، والجوزة عامرة فلا هم لنا.. إننا نرى السفينة تسير دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا.. وأن التفكير بعد ذلك لن يجدى شيئًا.. بل ربما يجر وراءه الكدر وضغط الدم.

وهناك «مصطفى راشد» المحامى المرموق قبل الثورة، الذى خسر بعدها بسبب تصفية الإقطاع الدوائر الزراعية التى كان يباشر قضاياها وأصبح يتولى القضايا الصغيرة لأبناء الشعب الكادح، وصار لا يعنيه سوى قبض مقدم الأتعاب ليساهم فى حصته من شراء الحشيش.. وهناك «أنيس زكى» الموظف السابق بأرشيف وزارة الصحة الذى تم إقالته بسبب تعاطيه الحشيش فأصبح «وزير شؤون الكيف» لشلة العوامة.. ومهمته إشعال الفحم وتكريس المعسل ووضع تعميرة الحشيش فوقه وإعداد معدات الكيف.

يصف الكاتب الكبير «صلاح عيسى» حال شلة العوامة بأن الجوزة هى محور حياتهم ومبرر صداقتهم وسر وجودهم، فهم يعيشون فى حالة خواء روحى مطبق.. ويثرثرون حتى مطلع الفجر بلا ضابط ولا رابط.. هذه الثرثرة على النيل أو ذلك الحوار الدائر بين الشخصيات هو البطل الحقيقى للرواية الذى يقترب بها إلى الشكل العبثى أو الفكر الوجودى.. فالثرثرة تبدو هدفًا فى حد ذاتها لا تتصاعد من خلال صراع ولا تؤدى إلى تشابك أو تناحر أو مواجهة بين الأفكار والمعانى.

وتبدو العوامة التى تمثل المكان الثابت لتجمع الشتات مثل «الشجرة الجرداء» التى تعكس عقم الحياة وخواء البشرية التى يقبع تحتها بطلا المسرحية العبثية الشهيرة لـ«صموئيل بيكيت» «فى انتظار جودو».. وهو حوار يمتزج فيه الهزل الصارخ باللامنطق وعبثية الوجود بفوضوية الواقع والفكاهة السوداء بالتعاسة الأزلية والحياة التى بلا هدف أو معنى، بالخواء والعدم.. لكن الفارق شاسع فى المحتوى والأسلوب بين ثرثرة «بيكيت» وثرثرة «نجيب محفوظ».. فالعبارات عند «بيكيت» غامضة مبتورة متآكلة متقطعة متكررة، فيها الكثير من الثأثأة والفأفأة.. وعجز اللغة عن التعبير.. ولا تعكس تفاوتًا فى السلوك أو معانى محددة أو هدفا يجتمعان حوله، اللهم إلا الانتظار النهائى لـ«جودو» الذى لا يأتى.

وهل هو حقيقة أم أنه لا وجود له أصلًا.. أو معنى لوجوده.. لكن فى ثرثرة «نجيب محفوظ» تقابلها شخصيات لها أبعاد اجتماعية ونفسية وإنسانية واضحة.. ولكل منها تاريخه المهنى الذى يتأثر حاضره بماضيه.. وفساده مرتبط بنوازعه ورغباته وعوراته الأخلاقية المرتبطة بواقع سياسى معين فى زمن محدد يسعى من خلال ثرثرته أن يجد لها مبررًا يفلسفه بسخرية لاذعة وتنابز بالعبارات الفاضحة «الجنون مرض فى أى مكان ولكنه لا شىء فى عوامتنا».. ومن هنا فالجميع يعيشون بلا عقيدة أو مبدأ ويقضون وقتهم فى العبث والهراء.

يتضح إذًا أن شخصيات الرواية رغم الافتقار إلى الحدوتة أو الحبكة تعيش فى الزمن الممتد وليس فى الزمن المحدود.. أو كما يورد الناقد «كمال النجمى»: «كل ما فى الرواية أن الدنيا تسير بأهل العوامة.. وحياتهم تنمو فوق ماء النيل، ذلك لأنهم فى كل حقبة وفى كل عصر لهم نظائرهم وأشباههم».. أما العمق الذى يشمل الوجود الإنسانى- كما أوردنا فى بداية المقال- فهو ينتزع من السياق ومن الرمز.. لقد حول «نجيب محفوظ» الثرثرة إلى حياة كاملة أما «العبث» فلم يضع نفسه فى خدمته بل فى خدمة أبطال رواياته وجلس هو يتأمل مصيرهم.. وكان المصير مروعًا حينما قرروا الخروج من هلوسة الدخان الأزرق فصدموا فلاحا فقيرا مجهولا لقى مصرعه.. وفروا هاربين إلا وزير شؤون الكيف فى يقظة ضمير مفاجئة.. وقرر أن يذهب إلى نقطة الشرطة ليبلغ عما حدث.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم