فاطمة ناعوت
قبل بداية كل عامٍ، تصرخُ بعضُ الأصوات المتوتّرة المُوتِّرة وتنادى بتحريم قول «ميرى كريسماس» لأشقائنا المسيحيين! قَلَّ الصراخُ هذا العام والحمد لله بسبب الخطواتِ الجَسور التى رسّخَها الرئيسُ عبدالفتاح السيسى على درب التنوير ومكافحة الفكر المتطرّف، لكن فحيحَها مازال يؤلمُ الآذانَ ويوجعُ القلوب. والحكايةُ أبعدُ من الإغاظات الطائفية التى ترمى ظلالَ السُّخفِ على الأشياء، وأعمقُ من المجاملات الإنسانية التى تجعل الحياةَ ألطفَ وأيسر. إنها حكايةُ وطن يريدُ أن ينهضَ. ولا تنهضُ أوطانٌ منقسمةٌ مُشتَّتة بالعنصريات والتشرذم. لا ينهضُ شعبٌ غير متَّحدٍ على هدف؛ هو: النهوض والتحضّر. ولأن الرئيس السيسى يكتبُ رسائله «بالأفعال لا بالأقوال»، فقد بدأ رسالتَه التنويرية بتدشين أكبر كاتدرائية فى مصر والشرق الأوسط، فى مثل هذه الأيام قبل أعوام، ومنحها اسم «ميلاد المسيح». وهذا الصرحُ ليس وحسب بنايةً هائلة من خرسانةٍ وأحجار وزجاج وأخشابٍ يتيهُ به المعماريون خُيلاء، وتفخرُ بتصميمه «الهيئةُ الهندسية بالقوات المسلحة المصرية»، كما يفخرُ بوجوده على أرض مصرَ كلُّ مصرىٍّ شريف؛ بل هو رسالةٌ حضاريّةٌ تحضُّريّة، أخلاقيةٌ وإنسانية، من مصر إلى العالم تقول بلسانٍ مصرى حاسم: «إن مصرَ بلدٌ تعددىٌّ لا يقبلُ القسمةَ ولا الإقصاء، ولا محلَّ بأرضها لمتطرفٍ ولا إرهابى ولا حاقد». هذا الصرحُ صفعةٌ على وجه الإرهاب والتطرف، تسحقُ أعداءَ مصرَ من عصابة الشرّ، داخلها وخارجها. كلُّ سنتيمتر من العشرة آلاف متر مربع فى كاتدرائية «ميلاد المسيح» بالعاصمة الجديدة يحملُ فكرةً، ويحملُ عهدًا ناصعَ الوضوح عظيمَ البيان. هذا الصرحُ العظيم ليس ترضيةً لأقباط مصر الرائعين الذين دفعوا الفاتورةَ الأكبر من أجل استقرار مصر ونجاح ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣. هذا الصرحُ ليس مواساةً لأقباط مصر الوطنيين الذين جادوا بدماء شهدائهم على مذابح الإرهاب الأشِر، برضا وصبر مُدهشٍ، فأثبتوا، كما شأنهم دائمًا، عمقَ وطنيتهم وحبّهم لمصر. هذا الصرحُ العظيم ليس هديةً لأقباط مصر الحزانَى على دماء الشهداء التى سالت فى أعيادهم وهم صائمون يُصلّون. بل هديةٌ لكل مصرىّ مسلم شريف، حتى يُحاججَ به أعداءَ الحياة خصوم الفرح؛ وكأننى وكلُّ مصرىٍّ نقول: «أنا مصرىٌّ متحضر، أُشيّد بيدى كنيسةً على أرض مصرَ لأبناءِ مصرَ كما أشيّدُ مسجدى؛ ليرفعوا فيها معنا اسمَ الله العلىّ. وكلّما فجّرتم كنيسةً، سأشيّدُ بيدى أخرى أكبرَ وأجمل. اذهبوا بعيدًا عن أرضنا، فنحن أبناءُ أرضٍ لا تعرفُ الإقصاءَ ولا البغضاء. أرضُنا أرصُ السلام، لا ترحبُ بأعداء السلام».
ومصرُ، من بين كلِّ أرض الله، حرىٌّ بها أن تبادرَ كلَّ شعوب العالم بتلك التهنئة الطيبة، فكلمة «كريسماس» كلمةٌ نصفُ فرعونية. «ماس» mas تعنى: «ميلاد»، باللغة المصرية القديمة. وكلمة «كريست» Christ بالإنجليزية تعنى السيد المسيح. فيقول العالمُ Christ-mas «ميلاد المسيح»، بلغتنا المصرية الأمّ. إنها أرضُ مصر الطيبة التى استقبلت هذا الطفل الجليل، وأمَّه البَتول، والشيخ يوسف النجار، حين فرّوا من الملك «هيرودس»، قاتل الأطفال فى فلسطين. هو الطفل المقدّس الذى سوف يكبر ليغدو رسولَ السلام للإنسانية كافة، «يجولُ يصنعُ خيرًا»، بعدما طوّبه الله بالسلام عليه فى القرآن الكريم: «يومَ وُلِد ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيًّا»، «وجيهًا فى الدنيا والآخرة ومن المُقرَّبين». فكانت أرضُنا الطيبةُ لتلك العائلة المقدسة «ربوةً ذات قرارٍ ومَعين»، جالت فيها سيدةُ الفضيلة، فتفجرت تحت قدميها عيونُ الماء، وشقشقت فى كلّ بقعة وطئتها زهورُ البيلسان، فامتلأت أرضُ مصرَ بالبركة والنور والخصب الذى لا يبور، وإن بارت الأرضُ كافّة. طافتِ العذراءُ مريمُ وابنُها عليهما السلامُ من شرقِ مصرَ إلى غربها إلى جنوبها. وطوالَ تلك الرحلة كانت أرضُنا تذوبُ حبًّا ورحمةً لتلك الفتاة التى اصطفاها الله من بين العالمين لتحملَ فى أحشائها من دون رجل هذا الرسولَ المُطوَّبَ، ليكون وأمّه آيةً للعالمين. تتفجرُ عيون الماء فى الصحراء القاحلة بمجرد أن تمسَّ قدمُها رمالَ القحط. وتنبتُ الزهورُ من بين طيّات الصخور. ويتساقطُ الرّطبُ من النخيل فوق كتفيها ريّانًا شهيًّا. لهذا باركَ الكتابُ المقدس أرضَنا الكريمة وشعبنا الطيبَ الذى أحسن استقبال الطيبين، فقال: «مباركٌ شعبى مصر».
هل يجوزُ بعد كل هذا التاريخ الذى سطرته مصرُ أن تكون لبلد آخر عُروةٌ وثقى ورباطٌ أزلىٌّ أبدىٌّ يربطُ الأقباطَ بأرضهم مصر، التى سمّاها أجدادُنا الفراعنة «ها كا بتاح»، أى: «منزل الروح»، ومنها اشتُقت كلمةُ «قَبَط»، التى تحوّرت إلى «إيجبت» Egypt، وبهذا فإن (أقباط) تعنى (المصريين)؟!
واليومَ، تقولُ مصرُ لأقباطها، مسيحيين ومسلمين، وللعالم بأسره: «ميرى كريسماس»، وإنّ شعبى فى رباطٍ إلى يوم الدين. «الدينُ لله، والوطنُ لأبناء الوطن».
twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم