بقلم المهندس باسل قس نصر الله

لأنه كل ميلادٍ مجيد وكُلُّنا بخير 
أكتبُ لهولاء الناس الذين هم من جيلٍ عاشَ هذه الفترات وهذه الذكريات، مسلمين كانوا أو مسيحيين، وأكتبُ للآخرين من الأجيال الجديدة، لأنقل إليهم صورة الأيام القديمة في حلب.  
 
كلُّ الأعياد هي زمن لقاء العائلات والأهل والأقارب. كنتُ أنتظر العيد لتأخذني خالتي إيفيت التي ربَّتني لنعايدَ الأقارب، ونَنتقل من بيتٍ إلى آخر، فهذا بيت الجدّ والجدّة، وذاك بيت خالتي وخالي، وبيت عمتي وعمي، وبعدها بيوت أبنائهم وبناتهم.  
 
طبعاً، الأعياد تعني الضيافة، وهذا الطفل باسل، كان ينتظر مأكولات العيد التي لها نكهة غير نكهة باقي الأيام، من المربيات التي اشتهرت بها حلب، مثل مربى الجوز والقَرع والكبّاد والبانْجان والنانرج، إلى "الأكلات"، من "أصابيع اللوز" و"المرصَبّان" و"الغرْيبِة" و"المارينغا".  
 
كنتُ آكلُ من كلِّ ما يُقدِّمونه لي. أما الَّذي لا أستطيع الاحتفاظ به في جيبي، فأضعه مع بقية "الأكلات".  
 
لم أكن أعي من الأعياد إلا اللعب والزيارات و"الأكلات".  
 
بالطبع، إن لقاء الأقارب كان يومياً لبعضهم، وأسبوعياً للبعض الآخر، لكنه لم يتجاوز الأسبوع للجميع.  
 
اليوم، أصبَحَت أعيادنا باهتة اللون. شجرة الميلاد لم تعد "مضويّة"، كما كانت - بالنسبة إليَّ على الأقل - حتى الأقارب فقدنا منهم الكثير، سواء بالموت أو بالهجرة.  
 
جميع هذه الذكريات ينطبق على كلِّ العائلات، مسلمة كانت أو مسيحية. الضيافة نفسها، والزيارات والألبسة الجديدة نفسها، لكنني أذكر أفراح عيد الميلاد وعيد رأس السنة التي كانت تعني لي أنني أكبرُ بالعمر وأزداد طولاً.  
 
كلّ العائلات غادرها الكثيرون؛ بعضهم توفي، والبعض الآخر هاجر خلال هذه السنوات العصيبة من أزمتنا أو خلال الحرب، أو سمِّها ما شئتَ. المهم أنَّنا فقدنا الكثير من الأشخاص، ولم يتبقَّ منهم سوى الذكريات.  
 
عندما كنتُ صغيراً، سمعتُ من الكبار قولهم إنَّ الزمن وحده هو الذي لا يجعلهم يعرفون أين سيموتون ويُدفنون.  
 
بالفعل، عندما كنتُ ألعبُ مع أقربائي، لم يكن يخطر إليَّ أنه سيأتي اليوم الذي لن أراهم فيه، وأنهم سيبنون حياتهم أو يكملونها خارج أحلامنا الصغيرة.  
أوراق موتانا تفضحنا. هلّا تفحَّصتُم قليلاً أوراق موتانا؟ هل نظرتم إلى أقرباء الميتِ أين يقيمون؟  
 
هذا أولاده في كندا، والآخر في فرنسا وألمانيا، وشجرة العائلة تتوزع في العالم.  
 
غادروا سوريا، وما زالوا يغادرونها، ونحن نُكَذِّبُ أنفسنا بأنهم سيعودون.  
 
أصبحوا يموتون في المهاجر ونشاركهم الجنازة من خلال "الفيديو المباشر"، ونرسل التعازي والدموع عن بُعد. 
هم يموتون في المهجر، ونحن نبكي في مغارة الميلاد السورية. 
 
اللهم اشهد اني بلغت