سحر الجعارة
عن أى رجل أتحدث؟!.. إنه مسكون بآلاف الأرواح والحضارات واللغات.
فى كفه نقوش فرعونية وآلهة وثنية.. وعلى جبينه نساء مكبَّلات بنظرته.
هو ابن «الأسطورة»، وريث الكهنة والأنبياء.. وهو الأب الشرعى للقصيدة.
ملاح فى بحور الشعر.. يغنى موته ومجده، طارد أنثى عصيّة على التدوين سقطت عن عرشها، لكنها ظلت أنثاه الخالدة يعبدها أو يلعنها لا يهم.. المهم أن تتلبَّسه روحها ليكتب، إنها الحرف الضائع فى دروب الذاكرة.. دونه تظل الأسطورة ناقصة، الكلمات تراوده عن روحه، يا لها من كلمة مراوغة كأفعى.. مقدسة وكأنها وحى من السماء، حين تندفع فى شرايينه، وتخترق عقله يخرج من دائرة الحياة.
يهرب إلى حياة أكثر رحمة لتبدأ رحلة «تناسخ الأرواح»، يتجرد تماماً، تسقط هيئة من طين، وتعلو روح من نور، إنه لا يزال ينتظر لحظة التوحد مع ذاته.. ربما يجدها فى مكان آخر وزمن مغاير.
- الاغتراب:
لا يدرى إن كان فجّر الأرض ليصعد.. أم هبط مع ضوء القمر.
كل ما يذكره أنه استيقظ فى موعد «القداس».. رأسه مزدحم بالتراتيل.
صافحت عيناه صورة «العذراء».. اشتعلت فى رأسه فكرة «البتولية».
أيا مريم البتول، امنحينى بعض نورك.. هدِّئى مخاوفى.
لو خُيرت فى حياتى لاخترت أن أعيش زمانك، علنى أُشفى من لعنة الدنس.
انفصلت صومعته عن مدار الأرض.. أصبح طيفاً تخترقه حيوات متنوعة:
يرى نفسه صوفية موغلة فى الحزن والاغتراب.. يعانق صوره المتداخلة.. يضبط قلبه متلبساً بالعشق.. هائماً فى فضاءات النشوة الموجعة، ينشطر نصفين: رجل وشاعر!، يضاجع جرحه القديم.. يتألم حتى تولد القصيدة.
- فتافيت إنسان:
كان اللحن يختنق بأحباله الصوتية.. لم يكن راهباً تماماً لتكتمل الترنيمة.
لم يكن عاشقاً بما يكفى ليزنى بالحقيقة.
وكأنه فتافيت إنسان.. تجمعها لوحة فسيفساء.. وتنثرها حكايات الأوّلين!
كان سؤالاً فى هيئة رجل.. ينتظر لحظة الاكتمال.. يعبر إليها من حياة لأخرى.
يتجسد فيه «أوزوريس».. يبحث عمن تلملم أشلاءه.
وذات حياة، يرتدى عباءة «الحلاج».. يزهد كل شىء.. يترقب مصيره المروع.
يقتله الإحساس بالوحدة بين مريديه.. يصلبه الحنين إلى التوحد.
عن أى رجل أتحدث؟.. عن رجل لا يمنح نفسه لأحد(!!)
يقدس المرأة لتظل مجرد «فكرة».. يكتبها.. يقرأها.. يتذوقها.. يمضغها..
يعيد إنتاجها من بنات أفكاره.. يعيد صياغتها لتليق بعاشق متفرد.
يتوه فى عالمها.. ليسترد وعيه.. يُجن بها.. ليعيد ترسيم خريطتها: نعومتها تستفز فحولته.. وشفتاها تحرضان شهوته.
على كتفيها تسكن الغواية.. ومن رحمها يولد اليقين!
- حديث الهدهد:
حدَّثه الهدهد عن ملامح امرأة منحوته على وجه الشمس الملتهب.
عرشها مرصَّع بأحجار الرغبة الأزلية.
إنها أنثاه المبتغاة.. بكل طقوسها الوثنية.. أى جان جعلها تستسلم بين يديه؟
كان لا بد أن تلتقى الحيوات الأُول فى لحظة واحدة ليولد من جديد.
كان لا بد أن يسكن رحمها ليُبعث حياً.. أن يتنازل عن مُلكه لتصبح أمته، احتار طويلاً: هل يقابلها بقلب صوفى.. أم بزهد راهب؟
هل يغوص معها فى بحور المعنى.. أم ينثر حزنه العتيق على كتفيها؟
حين ركعت أمامه ترجوه إيماناً.. لم تعد هى «بلقيس» نفسها ولا هو تنازل عن حكمته!، لم يكن نبياً فى هذه الحياة.. كان مجرد رجل.. وعاد لصورته الأولى:
رجل يضيق بصكوك الملكية العاطفية.. يتعاطى النساء كمضاد للاكتئاب!
قرأت تلك المعانى فى صمته.. هدأت، وغفت قليلاً فى راحتيه، وحين ضمها إلى صدره، أطلقت نفساً قصيراً وفارقت الحياة!
نقلا عن الوطن