حمدي رزق
ما لم يقدر عليه كل الظلاميين، استطاعه فيروس كورونا اللعين، اختطف الدكتور جابر عصفور فارس التنوير الصامد فى وجه أعاصير التفسيق والتكفير منذ عقود.
رحيل «وتد التنوير» خسارة فادحة لقبيلة التنوير التى تقاسى الأمرين من يومها، كراهية وملاحقة الظلاميين، وضعف «الحاضنة الشعبية» لأفكارها التى تسبح بصعوبة فى نهر الكراهية المسموم.
رحمة الله عليه، كان مقاتلا جسورا فى ميادين الفكر والثقافة، خاض معارك التنوير (وحده فى كثير من الأحيان) ضد مؤسسات ظلامية عاتية، وظل ناقدا لثقافة التخلف حتى النفس الأخير.
خاض معاركه الفكرية متسلحا بثقافة مستبصرة لمآلات مستقبل الثقافة المصرية، مستبشرا بفجر يلوح، مستلهما ومستبطنا نضالات سبقت لقامات فكرية عظيمة، توفر عليها، فجلّى أفكارها وجلّسها على الأرض، ودافع عن قيم الحرية والحق والعدل والجمال.
كان جميلا وهادئا وبشوشا وهو يخوض معارك قاسية، وابتسامته تلون وجهه ثقة فى انتصار ربما لم يدركه متحققا على الأرض.. يكفيه شرف المحاولة.
بسيفه، الذى هو قلمه، هز عروشا ظلامية عمرت قرونا، وقلقل هيمنتها، وزعزع سلطانها المكين، وكسر غرورها المخيف، وتحدى عتاة عتاتها على الصفحات فى مبارزات عنيفة، مثل معارك كسر عظم، وما غنموا منه مغنما، أو لحظة واحدة يعلنون فيها انتصارهم، حرمهم من نخْب تاقوا إليه طويلا.
حتى فى نعشه يتعقبونه بفحش القول، يثأرون من جثمانه فى شماته، بعد أن خشوا مواجهته حيا، كانوا كالمستذئبين يتعقبونه، وينهشون كعبيه، وكان يحلق فوق رؤوسهم كالعقاب ينقرها، يدميها، ويرتفع فى سماء الفكر، ويتركهم فى السفح عراة من كل قيمة.. يخشون ملاقاته فى ساحات الوغى الفكرية.
فقْد الدكتور جابر عصفور فقدٌ جد عظيم، وخسارة وطنية، قبيلة التنوير تفقد فارسها الكبير، لكنها لم تفقد أفكارها العظيمة، وحضور شبابها الذين شبوا على معارك عصفور الطاحنة، حضورهم طاغ، تعلموا من درس عصفور، «لا تصالح»، على قافية شعر طيب الذكر «أمل دنقل» فى قصيدته الخالدة:
«لا تصالحْ..
ولو منحوك الذهبْ
أتُرى حين أفقأ عينيك ثم أثبِّتُ جوهرتين مكانهما.. هل تَرى؟
هى أشياء لا تُشترى».
مسيرة تنوير دكتور جابر عصفور حافلة بالتحدى، قفازه دوما فى وجوههم، وجولاته الفكرية كانت دوما فى صالحه، ومقالاته كانت تدمى ألسنتهم، ولم يصمد من أساطيرهم الموهومة أمامه أحد، كانوا يتجرعون الهزيمة فى كؤوس مريرة، ثم يرتدون على أدبارهم القهقرى، يلاحقونه قضائيا!!.
الفارس الطائر كالعصفور كان يشق الصفوف دون خشية، لا يهاب الاتهامات المتطايرة، ولا فتاوى التكفير العاتية، يرتدى درعا من عقل، وهذا ما كان يقض مضاجعهم، ويقلق راحتهم، ويطير النوم من جفونهم، لم ينالوا منه عقب (كعب) أخيل!.
مدرسة التنوير المصرية التى تفقد إمامها، لم تفقد عقلها، فالجمع التنويرى المصرى مولف على تعويض الفقد، وفرسان المدرسة ودعوه من قلب جامعة القاهرة (جامعة التنوير) وسيعودون إلى الساحة يحملون شعلة التنوير مستلهمين أفكاره الراقية فى الحق فى الحياة والتفكير والتعبير، دون وصاية دينية، خلوًا من القداسة الموهومة، وتيقنا أن العقل الإنسانى أثمن ما يمتلكه الإنسان، والحرية الفكرية دون قداسة وهمية أسمى أمانينا.
نقلا عن المصري اليوم