زهير دعيم
كم تمنّت أنثى النَّسر فينيقية أن يرزقها الله بهيثمٍ ذكر يُحلِّق فوق القمم ، ويسرح فوق شجرات الأرز السّامقة.
وراحت فينقية تنظر بحنان الى البيضة التي ترقد عليها منذ أيام عديدة وفي قلبها ألف صلاة :
أريده نسرًا ذكرًا يا ربّ.. أريده أُسطورة تحكي عنه الثلوج والوديان وشقائق النّعمان.
ونامت والحُلْمُ يُدغدغها...
وما أنِ انبزغ فجر اليوم التّالي وإذا بالحياة تدبُّ تحتها ، فغمرتها السّعادة ، فخشعت في عشّها تشكر السّماء، ، خاصّة بعد أنْ تأكدت أنَّ الزائرَ الجميلَ ذَكَرٌ.
هبت فينيقية من الصّباح الباكر تبحث عن قوت لتغذّيَ به صغيرها
" لُبنان" فلُبنان قُرّة عينها وهمس روحها.
وكبر" لبنان " يومًا بعد يوم ، والأمُّ تعانقه في كلّ يوم مرّات ومرّات قبل خروجها للبحث عن طعام يقوتهما ، وهي تقول له : " لا أخاف عليْكَ ، فأنت نسرٌ شامخ كصِنّين "
وذات يوم وقد غابت فيه شمس الصّيف أو كادت ، ولم تعد النسر الأمّ ، فجاع لبنان ، وأخذ ينادي والظلام يخيّم رويدًا رويدًا :
ماما ... ماما ... أينكِ ؟! فالجوع يقتلني والعُشّ عالٍ وجناحاي لا يقويان على الطيران بعد ، والغِربان تتربّص بي ... ما ما ...
وحمَلَ الصّدى أنّات النسر الصّغير الى وادي الشّخروب وبشرّي .
نام " لبنان " في تلك الليلة ولم ينم ؛ نام والحنين يشدّه الى صدر أُمّه الدافىء ، والى قطعة لحم تُسكّن جوعه .
شقشقَ الصُّبح على أغرودة " زغلولٍ " أنعشه النسيم البليل ، فردّت عليه " الشّحرورة " بزقزقة أجمل ، ففتح " لبنان " عينيه لعلّه يجد أمّه بجانبه فهو يُحبّها ويريدها وليمتِ الجوعُ وأهلُه ، ولكنّه أصيب بخيبة أمل.
علت الشّمس في كَبد السّماء و " لبنان" يقضّه الجوع والحنين ، فعاد يبكي ويذرف الدّموع الساخنة ، وفجأة توقّف عن البكاء وصَفَرَ بقوّة :
" أنا نسرٌ شامخٌ كما صِنّين ، أنا بطلٌ لا يلين " عليَّ أن أتصرّف ، عليَّ أن أهبط كيْ ما أعلو ..
وبدأت المحاولات ...
ونجح أخيرًا أن يمتطي سقف العُشّ فالتقطَ بمنقاره سنبلةً وفتح جناحيْه الصّغيريْن وهبط الى الأرض والرّعشة تغمرة.
حطّ " لبنان " عند جذع شجرة أرز شامخة ، فرفع رأسه الى السماء بعينين دامعتيْن وقال :
أنقذني يا ربّ السماء يا إله الجبران ... أنقذني من المتربّصين بي ومن الفاسدين الذين قتلوا أُمّي وسرقوا قوتَ يومي ..
وما أن انتهى من صلاته وإذا بسحليةٍ تمرّ من أمامه فتلمّظ قبل أن يعرف اسمها وقبل أن يلتقطها بمنقاره الصّغير.
وظلَّ في ظِلّ الازرة يومًا ويومين وأيامًا والسماء تقوته.
كبرَ " لبنان" واشتدّ جناحاه وأضحى نسرًا شابًّا.
وفي ظهيرة يومٍ من الأيام قرّر النسر الشّاب أن يطير ، ففردَ جناحيه وحاول ان يطير ولكنه لم ينجح في محاولته الاولى رغم أنه علا بعض أمتار..
وحاول في اليوم الثاني والثالث....
الى أن جاء يوم وأذا به يحلّق فوق الجبال وهو لا يصدّق.. يُحلّق بعيدًا بعيدً ا فوق قمّة صِنّين وفي فمه أغنية :
بْحبكْ يا لبنان يا وطني بحبك ، بشمالك بجنوبك بسهلك بْحبك.