د. أحمد الخميسي
تتوالى محاولات ترجمة الأدب العالمي بالعامية المصرية بإصرار يتأرجح بين الجهل والعمد، ووصل الأمر بالبعض إلى كتابة المقالات بالعامية، آخر هذه المحاولات كانت ترجمة رواية ألبير كامو" الغريب"، ويذهب أصحاب تلك المحاولات إلى القول بوجود " لغة مصرية مستقلة"، يقصدون بذلك اللهجة العامية المصرية التي هي خليط تاريخي من لغات مختلفة تركية وفرنسية وانجليزية وايطالية وبالطبع العربية التي تشغل الحيز الأعظم. وترجع الدعوة للتأليف والكتابة والترجمة بالعامية إلى الخلط الفاحش – المتعمد أو الناجم عن الجهل- بين اللهجة التي تلازم كل اللغات الفصيحة وبين اللغات نفسها. ذلك أن اللغة تتألف من معجم كلمات ومنظومة قواعد، وهو ما لا يتوفر للعامية لأن معجم كلماتها في معظمه عربي فصيح، ولأنه لا تتوفر لها منظومة قواعد رغم الاختلافات النحوية الطفيفة بين الفصحى والعامية في أسماء الاشارة وجمع أفعال المثني، مثل " الولدان ذهبوا" بدلا من ذهبا. والالحاح على الكتابة بالعامية ليس جديدا في التأليف والترجمة، فقد صدرت من قبل رواية مصطفى مشرفة " قنطرة الذي كفر" في مطلع الستينيات، ثم كتاب لويس عوض" مذكرات طالب بعثة" 1965، ومسرحية شكسبير عطيل عام 1989، ثم مسرحية شكسبير حلم ليلة صيف في 2016، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري في 2016. وبلغ الأمر حصول رواية كتبت بالعامية اسمها" المولودة" على جائزة أدبية مرموقة. ويذهب كل أولئك المؤلفين أو المترجمين- إلى أن العامية لغة ويخلطون إما عن جهل أو عمد بين اللهجة واللغة، ويبررون ذلك في الأغلب الأعم بقولهم إن " العامية" مقرؤة ومفهومة خلافا للفصحى. ومن هنا يبدأ الوهم، إن لم يكن الدجل. ذلك أن أحدا لا يعرف قارئا يتجه إلى باعة الكتب ويسألهم كتابا بالعامية لأنه يحسن القراءة بالعامية ولا يحسنها بالفصحى! فالذي يقرأ يقرأ الحروف العربية خاصة أن الفصحى لم تعد لغة عسيرة في الصحف والاذاعة وغيرها.
ومن المفهوم أن تتوجه فنون مثل السينما والاذاعة وشعر العامية والمسرح إلى العامية، لأن تلك الفنون تخاطب قطاعا واسعا ربما يكون عدد ضخم فيه لا يحسن القراءة، لكن من السخف أن تتجه العامية تأليفا وترجمة الى الكتاب المطبوع – الذي لا يسأل عنه سوى قاريء! أخيرا فإن كل من قاموا بتلك المحاولات كتبوا أو ترجموا إلى العامية القاهرية، وإذا كان من حقهم اعتماد العامية القاهرية " لغة " لهم كما يقولون، فإن من حق أصحاب اللهجات المصرية الأخرى، الصعيدية، وبدو سيناء، والسواحلية، وسكان النوبة، اعتماد لهجاتهم المحلية لغات يكتبون ويترجمون بها، فيقوم أدباء الصعيد بترجمة تشيخوف كالتالي : " جل لي يا بوي أنت رايح سيبريا ولا ما رايحش؟".
وسوف يفضي تزوير اللهجات واعتمادها لغات إلى نتيجة واحدة : تفتيت اللغة الفصحى الميسرة التي تجمع الوطن، مما يعني مباشرة تفتيت الوطن ذاته بهدم أقوى مرتكزاته أي وسيلة التفاهم والتواصل بين الجميع. ولا يكمن حل المشكلة في اعتماد اللهجة لغة أوتحويلها إلى لغة، بل في تطوير الفصحى وتقريبها للناس. أخيرا فقد كان تفتيت اللغة التي توحدنا ومازال هدفا غاليا منذ أن شغل المستشرقون رفاق الاستعمار الانجليزي أنفسهم بتلك القضية ، ووضع ويلهلم سبيتا كتابه " لهجات المصريين العامية" عام 1880، وتبعه وليم ويلكوكس أحد رجال الاستعمار البريطاني وكان مهندسا للري في مصر حين ترجم مقطوعات لشكسبير بالعامية في 1892، ومع أن تاريخ الدعوة للعامية لم يكن منزها عن أهداف أخرى، إلا أن الغالبية العظمى ممن يتحمسون لتفتيت اللغة القومية يقومون بذلك عن جهل وخلط بين اللهجات واللغات.