فاطمة ناعوت
مائدةٌ مستديرة للنقاش حول "الأديان والأخلاق"، جمعت مجموعة من رجالات الدين من عقائدَ وأديانٍٍ ومذاهبَ شتّى. وكان من بين المناقشين عالمٌ في اللاهوت المسيحيّ من أمريكا اللاتينية، وحكيم التبت "تنزين جياتسو"، القائد الروحي الأعلى الحالي لبوذية التبت المُلقّب بـ "دلاي لاما".

بعد انتهاء النقاش، وجّه رجلُ الدين المسيحي سؤالا للدلاي لاما:
- "يا سماحة الدلاي لاما، ما أفضلُ الأديان، من وجه نظرك؟"

وكان بالطبع يظنُّ أنه سيقول: "بوذية التِّبت" هي الأفضل. أو على الأقل "الديانات الشرقية" التي تسبقُ المسيحية بقرون بعيدة. لكن "دلاي لاما" ابتسم، ثم قال بهدوء:
- "العقيدةُ الأفضلُ هي تلك التي  تجعلك شخصًا أفضل. وتجعلك أقرب إلى صورة الله على الأرض”
ألحّ رجلُ الدين المسيحي في السؤال، قائلا:
- "وما هي تلك العقيدة التي تجعل الإنسانَ شخصًا أفضل؟"

فأجاب دلاي لاما:
- "هي العقيدةُ التي تجعلك: أكثرَ رحمةً، أكثرَ إدراكًا، أكثر حساسيةً، أقلّ تحيّزًا، أقلّ عنصريةً، أكثرَ حبًّا، أنظفَ لسانًا، أكثر إنسانيةً، أكثر مسؤوليةً، وذا أخلاق. الدينُ الذي يجعلك كل ما سبق، هو الدينُ الأفضل.

صمتَ رجلُ الدين مأخوذًا بالإجابة الحكيمة، التي لا يُمكن مجادلتها. لكن "دلاي لاما" أكمل قائلا:
- "لستُ مهتمًّا يا صديقي بعقيدتك أو دينك أو مذهبك. أو إذا ما كنتَ متديّنًا أم لا. الذي يعنيني حقًّا هو سلوكك أمام نفسك، ثم أمام نظرائك، ثمّ أمام أسرتك، ثمّ أمام مجتمعك، ثم أمام العالم. لأن جُماع كل ما سبق سيشكّل كيانك وصورتك أمام الله. تذكّر أن الكونَ هو صدى أفعالنا وصدى أفكارنا. وأن قانونَ الفعل وردّ الفعل لا يخصُّ، وحسب، عالم الفيزياء. بل هو أيضًا قانونٌ يحكم علاقاتنا الإنسانية. إذا ما امتثلتُ للخير سأحصدُ الخيرَ، وإذا ما امتثلتُ للشرّ لن أحصد إلا الشرَّ. علّمنا أجدادُنا الحقيقة الصافية التي تقول: سوف تجني دائمًا ما تتمناه للآخرين. فالسعادةُ ليست رهن القدَر والقسمة والنصيب، بل هي اختيارٌ وقرار.” ثم ختم كلامه قائلا:

"انتبه جيدًّا لأفكارك، لأنها سوف تتحول إلى "كلمات”. وانتبه إلى كلماتك، لأنها سوف تتحول إلى "أفعال”. وانتبه إلى أفعالك لأنها سوف تتحول إلى "عادات”. وانتبه إلى عاداتك لأنها سوف تكوّن "شخصيتك"، وانتبه جيدًّا إلى شخصيتك لأنها سوف تصنع "قدرك"، وقدرُك سوف يصنع "حياتك كلّها."

ما يريد قوله دلاي لاما بكل بساطة هو أن الدين "وسيلة"، وليس"غاية”. الغايةُ العليا هي "الصلاح". والدينُ هو أحد السبل للوصول إلى الصلاح. لهذا فإن الرُّسل  كانوا يختمون دعاءهم بعبار:ة "اللهم الحقنا بالصالحين." كقول سيدنا إبراهيم عليه السلام: "رَبِّ هَبْ لِي حُكمًا والحقني بِالصَّالِحِين" الشعراء ٨٣.

فإن قضى الإنسانُ عمرَه كلَّه في مسجد أو كنيسة أو هيكل أو معبد، يُصلّي ويصوم ويتعبّد، ولم يصنع منه كلُّ ذلك إنسانًا صالحًا رحيمًا متحضرًا عفَّ اللسان، فما جدوى ركوعه وسجوده وجوعه وعطشه، واللهُ تعالى غنيٌّ عن صلاتنا وذكرنا وقرابيننا؟!  إنما خلقنا اللهُ لكي نصنع نموذجًا متحضرًا للكائن المسؤول الذي يختار الخير وهو قادرٌ على الشر. ويختار الرحمة وهو قادرٌ على القسوة. ويختارُ العدل بدلا من الظلم. لهذا كلّفنا الله وجعلنا ورثة الأرض القادرين على الاختيار والقرار: “وهديناه النجدين"، والنجْدُ هو الطريق: أي منح اللهُ الإنسانَ طريقَ الخير وطريقَ الشر، ليختار بينهما.

أذكر حوارًا طيبًا دار منذ سنوات بيني وبين د. عبلة الكحلاوي. كنتُ أشكو إليها ما يجري في مصر من مشاحنات طائفية مُخزية وأسألها السبيل. وبعد حوار طويل  أنهتْ العلاّمةُ الجميلةُ الكلام بقولها: "يا ابنتي، نحن البشرَ جميعنا، مسلمين ومسيحيين ويهودًا، سوف ندخلُ الجنةَ بأعمالنا. فقط بأعمالنا."
نقلا عن المصرى اليوم