زهير دعيم
مرّت على أطفالنا سنوات عِجاف ؛ سنوات طويلة ، لم يلتفت فيها كُتّابنا إلى الأطفال ، ولم يحاولوا أن يبدعوا لأجلهم شيئًا ؛ هؤلاء الأطفال الذين سيكوّنون المستقبل الآتي ويلوّنونه.
وكان صمت مطبق ، تبعته بعد سنين صرخات شجاعة قائلة : هل هناك من يهبّ فيرفع هذا الضيم ؟! ولعلّ هناك من يهبّ فيجرّد قلمه ويغوص في دنيا الطفولة وفي براءة الحياة ، عالمين علم اليقين أنّ الكتابة للأطفال ليست هي لعبة أطفال ، بل هي صعبة وشاقّة تستوجب منك ان تنزل وتغور في نفسية الطفل وتسبر غور كينونته ، وتسبح في بحرها الهائج المتلاطم ، لتخربش على صفحاتها صفحاتٍ ولا أحلى وقيمًا ولا أجمل.
وسبحان ساكن العرش ، فقد انهمرت قصص الأطفال في العقديْنِ الأخيرين انهمارًا غريبًا فوق رؤوسنا ، فقلنا إنها أمطار الخير ، أمطار البركة ، ولكنه بان وظهر مع الأيام أنّه جرف يزداد حدّة ، يزعج ، يؤرّق ويُدمي.
فالكلّ أضحى كاتبًا ، حتى معلّمة صفّ البستان والحاضنة ، الكلّ أخذ يُدلي بدلوه؛ مثقوبة كانت ام مسدودة ، فجاءت حكايات مُقطّعة موصّلة ، المهمّ انها بين دفتي كتاب !!!
جميل أن نكتب للأطفال ، وجميل ان نبدع ، ولكن ليكن الإبداع حقيقيًا نابعًا من الوجدان ، ولتكن القصّة هادفة ، باسمة ، ضاحكة والأهم مثيرة ، تحمل في أحشائها نكهة تربوية وقيمة خلقية فتشحذ فكر الطفل الصغير . فالقصة التي تخلو من الأكشن تأتي جافّة ، يابسة كما الحطب تتوق الى النار والموقد.
لو تصفحّنا اليوم عشرات بل مئات قصص الأطفال التي صدرت في العقد الأخير في بلادنا لوقفت حائرًا فاتحًا فاك ...ما هذا المستوى او بالأحرى اللا مستوى ؟ ما هذا الأدب؟
ان غالبية هذه القصص- وأقولها بصراحة – تأخذ مني مأخذًا ، انها لا تستحقّ ان ترى النور .
أنا لا أنكر أن هناك بعض القصص تستحقّ الحياة ، بل وتستحقّ الترجمة الى اللغات الحيّة ، لانها فعلًا رائعة تحمل في ثناياها أهدافًا سامية ومغزىً رائعًا.
تسيُّبٌ وتسيُّبٌ ما بعده تسيّب ...الكلّ أضحى كاتبًا للطفولة ، ومنهم من لا يفرّق بين الألف اللينة من القائمة ، مع العلم ان الكتابة للأطفال تحتاج الى مراس ومران أكثر من الكبار ، فنفسيّة الطفل حسّاسة ، مُرهفة قد تجرحها نسمة شقيّة او همسة غريبة .
قد نتساءل ما العمل وكيف لنا ان نفصل القمح من الزؤان والغثّ من السمين ؟
تحدثنا طويلا نحن معشر كُتّاب الأطفال في أكثر من مؤتمر وأكثر من تكريم واجتماع ، صُلنا وجُلنا في دنيا الواقع ، واقترحنا وما زلنا نقترح إقامة مجلس او لجنة تتألف من رجال الأدب والفن وعلم النفس وغيرهم ، تفحص النصوص قبل ان نزجّ بها الى المطبعة فتأتي فجًّة، ولكن ضيق يد الكُتّاب والأدباء وكثرة العرض والمكسب المالي ، فتح شهوة دور النشر ، التي عملت وما زالت تعمل جاهدة على مكافأة الكاتب بعشرين نسخة من الكتاب..نعم عشرون بالتمام والكمال..يا للحظّ...... حقّا " التشكيلة" الكبيرة المطروحة في " السوق " لا تعني بالضرورة الجودة .
لقد صرخنا وما زلنا نصرخ في كلّ المحافل ولكن لهم آذان ولا يسمعون .
إنّ الأدهى والأمرّ ان القصة الجيّدة تضيع في معمعان هذه القصص الركيكة ، البسيطة والشبيهة " بالحدّوثة " ، فلا غرو ان وجدت اليوم إحجامًا من الكُتّاب والأدباء الحقيقيين من خوض هذه التجربة ثانية.
لا أبالغ إن قلت أن دُرج مكتبتي يحتوي لا اقل عن ثلاثين قصة للأطفال ، تعبت في صوغها وبنائها وخلق شخصياتها وتشكيل أحلامها ..ثلاثون قصة ونيّف تنتظر ، واحيانًا تنتفض وتصرخ : لقد مللنا الانتظار ، ارحمنا بربّكَ .
هل من منقذ ؟ هل هناك من يقول كفى ، تعالوا نغنّي الطفولة غناءً طاهرًا عفويًا ، تعالوا نُزركش عالمه بالألوان والحبّ والإبداع والإثارة !!!
إننا في حَيْرة ...أنكتب ونكتب وننتظر الفرج ؟! أننتظر من يحنّ علينا ويتكرّم بعشرين نسخة و "تحمّيل الف جْميلة" كما تقول جدتي؟أم نصمت ونجعل قصصنا طعامًا سائغًا للغبار؟!!
حقًّا هناك الكثير من قصص كُتّابنا تستحقّ الحياة ، وتستحقّ ان تتسربل بسربال اللغات العالمية ، فتتهادى وتتجلّى باللغة الانجليزية والفرنسية والألمانية وحتى الصينية والروسيّة ، وعندها قد نرفع الرأس عاليًا .
أتراني أصرخ في واد ؟ أتراني انفخ في رماد؟ أم ان هنا ك كُوّة للأمل قد تنفتح فيزهر ربيع قصص الأطفال في بلادنا والوطن العربيّ كلّه ؟
كُلّي أمل.