د. أحــمــد الــخــمــيــســـي
صادفتني من الروايات المطروحة في معرض الكتاب رواية صدرت هذا العام لكاتبة شابة بعنوان" 25 ليلة في الجحيم"، وكان مؤلف آخر قد نشر قبل ذلك رواية" ألف ليلة في الجحيم"، وأظن أن ألف ليلة خاصة إن كانت في الجحيم كانت كافيه للقاريء. القضية هنا أن الكثيرين من الأدباء الشباب يتخيلون أن التجديد في الأدب يكمن في العنوان المثير، أو الموضوع الغريب، أو طرح قضايا لا علاقة لها لا بالحياة ولا بالواقع ومن ثم لا علاقة لها بالأدب والفن حتى لو صارت الأكثر مبيعا. ولا أظن أن أحدا يختلف  على قيمة الكاتب الأرجنتيني العظيم خوليو كورتاثر، الذي تحدث عنه  بورخيس قائلا : " إنني أشعر بالفخر لأنني أول من نشر لكورتاثر".

يعد كورتاثر نموذجا للتجديد الفني العبقري في القرن العشرين، وعندما تقرأ قصصه فإنها تستوقفك وتجبرك على التأمل طويلا، والنهوض لتذرع المكان الذي تقرأ فيه وقد استولى عليك الاعجاب والدهشة. كان أول ما نشره كورتاثر هو مجلد شعري بعنوان " حضور " عام 1938، ثم تأهب ثمانية أعوام كاملة لكي ينشر أول قصة بعنوان" المنزل المحتل". ويلفت النظر هنا ذلك الصمت الطويل بين المجلد الشعري وأول قصة، ويشير هذا إلى أن الأدب ليس تعجلا للنشر، أو ما يسمونه الآن " التواجد" أو الظهور، فقد كتبت كل الأعمال العظيمة في سنوات طويلة كما حدث مع " دون كيخوت " التي ظل سرفانتس ينقحها على مدى عشرة أعوام، وكما حدث مع " المعلم ومرجريتا " التي كتبها بلجاكوف في اثني عشر عاما ووضع النقطة الأخيرة فيها قبل وفاته بأيام، وأيضا مع رواية " الأنساب المختارة " التي كتبها جوته خلال ثمانية عشر عاما. ولا أقصد بذلك أنه لابد من انقضاء فترة زمنية طويلة ما بين عمل وآخر، لكن عدم التعجل ، هذا بعد أن دخلنا إلى مرحلة " رواية لكل مواطن".

في الوقت ذاته فإن أعمال كورتاثر تلفت النظر بشدة إلى جوهر التجديد الأدبي، الذي لا يرتبط لا من بعيد ولا من قريب بالعناوين المثيرة، والغرائبيات، والحيل التقنية، والتوليف، وباختصار فليس للتجديد عنده علاقة بالأساليب السردية المستخدمة لذاتها، لكن التجديد عند الكاتب الكبير يرد أساسا من المضمون، وتحديدا من فكرة القصة الرئيسية. وهناك مجموعة قصصية شهيرة لكورتاثر بعنوان" نهاية اللعبة" تضم قصة مذهلة تصلح نموذجا لتوضيح ما أقصده وهي قصة " الوردة الصفراء"، وفيها يلتقي الراوي بشخص آخر في حانة ويسرد عليه كيف أنه ( أي الراوي) قد صادف شابا صغيرا يشبه ذلك الشخص شبها شديدا، وأنه تتبع ذلك الشاب إلى أن تعرف إلى أسرته، وخلال ذلك نكتشف شيئا فشيئا أن حياة ذلك الشاب الصغير نسخة من مطلع شباب الراوي مع بعض التغييرات الطفيفة. ويقودنا كورتاثر إلي فكرته : أن البشر جميعا يعيدون إنتاج أنفسهم وصورهم ، ومن ثم فإنهم جميعا خالدون بشكل أو بآخر. ليس في القصة شيء جديد من ناحية الشكل لكن التجديد فيها يرد من الفكرة الجديدة.

معظم قصص كورتاثر تقوم على فكرة جديدة ، وليس على حيل شكلية جديدة، وليس كورتاثر وحده، بل كل الأدباء الكبار. يأتي التجديد في الأدب بقدر ما يكون استجابة ابداعية لأفكار وضرورات اجتماعية في واقع محدد تاريخيا ومكانيا، بقدر ما يعبر أيضا عن الظواهر الاجتماعية المستجدة. باختصار الابداع عملية أكبر من العناوين المثيرة، ومن الغرائبيات، والعجائب، ومازلت أذكر من قصة لأنطون تشيخوف قوله إنه يندهش من الذين يصيبهم الرعب من عفاريت المقابر بينما تثير الحياة من الرعب ما هو أكثر بكثير، الحياة أيضا عامرة بقضايا قادرة على أن تلهم الأدب طرق التجديد فقط إذا تأملناها.