فاطمة ناعوت
حين تُشيرُ بإصبعك إلى مكان ما وأنت تصرخُ بأعلى صوتك: «ثعبااااااااان!» يهرعُ إليك بعضُ الشُّجعان، ثمّ ينظرون إلى المكان الذى تشيرُ إليه إصبعُك الجميلة، وينهالون على رأس الثعبان بالفؤوس والحجارة والمناجل، حتى يردوه صريعًا. تخيّل الآن أن أولئك الجسورين حين هرعوا على صوت استغاثتك، توجهوا ببطء نحوك، وانهالوا بالسكاكين على إصبعك المسكينة التى تشير إلى الخطر فقطعوها، ثم راحوا يهنئون بعضهم البعض على إنجازهم المحمود، وأنت تصرخُ ألمًا مشدوهًا مما فعلوا، فينظرون إليك مشدوهين من صُراخك!، أما الثعبانُ، فهو الآن يضحكُ منكم وقد نجا بحياته.
لا تتعجّب من هذه الحكاية الكوميدية السوداء، فنحن نفعلُها كلَّ يوم، بصورة أو بأخرى. نُقطّعُ أصابعَ بعضنا البعض، ثم نهنئ بعضنا البعض. حين تشيرُ بإصبعك إلى عوار مجتمعىّ علينا مواجهته، أو ظاهرة سلبية، أو واقعة مُشينة، أو حتى راقية تريدُ أن ينظر إليها الناسُ ليتعلموا منها قيمةً أو إلهامًا، فإن العوارَ والظواهرَ والوقائعَ المشينة أو الراقية تكونُ فيما «أشرتَ نحوه بإصبعك»، وليس فى «الإصبع التى أشارت». ولو قُطِعَتِ الإصبعُ التى تشيرُ، فإن أوجه العوار والأمجاد تظلُّ موجودة، تنتظرُ إصبعًا جديدة تشيرُ إليها، حتى يراها المجتمعُ فيعالجها، أو يتخذها نموذجًا يُحتذَى.
الخلطُ بين «الإصبع» التى تشيرُ وبين «المُشار إليه» خطأ طفولىٌّ لا يقعُ فيه الكبار. والفنُّ كثيرًا ما يكون «الإصبع» التى تشيرُ إلى خبيئات المجتمعات وخفايا النفس البشرية؛ حتى نتأملها ونُشرِّحَها ونتعلّم. «وليم شكسبير»، الكاتب البريطانى العظيم، لم يترك سوءَةً فى النفس البشرية إلا وكشفها عبر مسرحياته الملهمة: الطمع، الحقد، الغيرة، الحسد، الطموح المَرضى، الكذب، الخيانة، البخل، وغيرها من أدران الروح، لكن أحدًا من قرّائه عبر التاريخ لم يقل إن «شكسبير» يُحرِّضُ الناسَ على الرذائل. لماذا؟. لأنهم لا يخلطون بين الإصبع والثعبان، ويميّزون بين المُشير، والمُشار إليه.
كذلك الحال فى أدب العظيم «نجيب محفوظ». دعونا نتأمل ثلاثية: «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية». مثلًا نموذج «بائعة الهوى» الحسناء خفيفة الظلّ، ونموذج «سى السيد» الرجل «الهلّاس» مزدوج الشخصية، الذى كان أبًا وزوجًا حازمًا متدينًا فى بيته، وفى سهراته الحمراء يرقصُ ويتهتك مع بائعات الهوى، وحتى نموذج «أمينة»، الزوجة الطيبة المنسحقة، هل قال «خائبٌ» إن روايات «محفوظ» أو الأفلام التى بُنيت عليها كانت قد حرّضت مجتمعنا على الرذيلة والنفاق والانسحاق؟!، كذلك مسرحية «المومس الفاضلة» التى كتبها «جان بول سارتر» عام ١٩٤٦ تحدثت عن «بائعة هوى» رفضت أن تشهد فى المحكمة بالزور على زنجى برىء وفقير، لصالح قاتل أبيض ثرى. والمسرحية تطرح أمرين: ١- التمييز العنصرى فى أمريكا بين البِيض والسود. ٢- أن بائعة الهوى ليست بالضرورة عديمة الضمير وشاهدة زور، بل قد تدفع حياتها ثمنًا لصدقها ونُصرة مظلوم فقير لا تعرفه.
هل تلك المسرحية تدعو الفتيات إلى بيع الهوى؟!، أم تكشف عوارات المجتمعات، وخبايا النفس البشرية التى قد تجمع بين الفضيلة والرذيلة فى آن؟. مَن يرى أن الفيلم، أىَّ فيلم، أو مسرحية أو قصيدة أو لوحة تشكيلية أو قطعة نحتية، أو الفنون بوجه عام، بوسعها أن تُحرّض مجتمعًا على الفسوق هو ذلك الشخص الذى خلط بين الإصبع والثعبان، فقطع الإصبعَ وترك الثعبانَ يرعى. الفنونُ تطرح «الأسئلة» والمجتمع يعالج نفسَه بنفسِه ويضع «الإجابات» بعد المكاشفة والتأمل. سيقول قائلٌ إن الأدبَ/ الفيلم يكون ذا رسالة راقية إن عوقِب المجرمُ فى الصفحة الأخيرة من الرواية، أو مع تتر النهاية فى الفيلم، ويكون الفيلمُ مبتذلًا إن نجا المجرمُ بفعلته. وهذا يجرّنا إلى «أنماط» الأدب و«مدارس» الفنون. فى أى عمل درامىّ هناك غالبًا احتمالان لنهاية الشخصية الشريرة أو الـVillain الدرامى. إما عقابه بالموت أو السجن، وهنا يغدو الفيلمُ «كلاسيكيًّا تبشيريًّا»، أو بعدم عقابه حتى لحظة نهاية الفيلم، (التى هى ليست نهاية الحياة)، وهنا يكون الفيلمُ أقرب إلى مدرسة «الواقعية»، فالواقعُ يعلّمنا أن عقابَ الشرير قد يتأخر وليس دائمًا وشيكَ الحدوث «حالًا بالًا» كما فى الأفلام الرومانسية، وإلا ما ردّدنا أن اللهَ يُمهِل المُخطئ ليزداد فى غِيّه إلى حين.
المسرحُ الإغريقى وكثيرٌ من مسرحيات «شكسبير» كانت تنتهى بمقتل البطل الشرير، ومكافأة البطل الطيب لأن فى هذا لونًا من «التطهُّر» النفسى الذى يُريح المتفرجين، فالمتفرجُ الظالمُ يفرحُ بعقاب «البطل الظالم» على المسرح، إذْ يظن أنه هو شخصيًا (المتفرج) قد تبرأ من آثامه وتطهّر. والمتفرجُ المظلوم كذلك يفرح بعقاب الظالم الدرامى، ويرى فى هذا ترضيةً له هو شخصيًا (المتفرج المظلوم) فى الحياة؛ فيتطهَّر من عذابه. لونٌ من الإيهام وأقراص المُسكّنات لتخفيف الوطء عن الأنفس المتعبة، وجعل عجلة الحياة تمضى. لكن «الدراما الواقعية» ترى أن دورها ليس «المسكنات»، بل «الجراحة». الدراما الواقعية تشيرُ إلى «أدران المجتمع» لكى تنكشفَ أمام الأعين فنواجهها، بدلًا من السكوت عنها حتى تستفحل. فى فيلم «أصحاب ولا أعز» كان الهدفُ الدرامى مواجهة ظاهرتين مرضيتين: ١- أن «الهاتف» يعلمُ عنّا أكثر مَما يعلمه أقربُ الناس إلينا. ٢- أننا «ديّانون» منافقون نرتدى الأقنعةَ طوال الوقت. ننظر إلى «القذى» فى عيون الناس، وننسى الأخشاب التى فى عيوننا. الفنُّ يُحاكَمُ فى محكمة الفنّ، وفقط.
نقلا عن المصري اليوم