عاطف بشاى
هو درة ثمينة من درر الإبداع السينمائى، وإحدى العلامات الساطعة فى تاريخ السينما المصرية فى مسيرتها الممتدة، كمخرج ينتمى إلى الجيل الثانى، والذى برز تميزه منذ فيلمه الأول «الحرمان» «1953»، وظهرت موهبته جلية فى القدرة على التنوع الدرامى الثرى فى أشكال وطبيعة الموضوعات الاجتماعية والنفسية.. التراجيدية والميلودرامية والاستعراضية والكوميدية والرومانسية، دون التقيد بأساليب محددة أو أطر ثابتة فى طرق التعبير، أو اتجاهات تخضع لقناعات فكرية معينة أو قوالب شكلية ملزمة، اللهم إلا البراعة الواضحة فى استخدام أدواته الفنية والتميز المبهر فى اختيار اللغة السينمائية التى يتسق فيها الشكل الفنى مع المضمون والمحتوى المطروح.. والحقيقة أن هذا التنوع المدهش فى التعبير الدرامى أطلق العنان لحرية المخرج المبدع فى تحقيق المتعة المرئية للمتلقى لأفلام عاطف سالم.
ففى فيلم «أين عقلى» يغوص فى أسرار النفس البشرية من خلال المرض النفسى لبطل مأزوم، يعانى من فصام حاد يسقط أعراضه على زوجة معذبة فى دراما سيكولوجية عن قصة لإحسان عبد القدوس وسيناريو رأفت الميهى وبطولة سعاد حسنى ومحمود ياسين.
وفى أفلام «إحنا التلامذة» و«جعلونى مجرما» يطرح قضايا الشباب وانحرافاتهم فى إطار اجتماعى يختلف عن الإطار الذى يعالج فيه أفلاما ميلودرامية الطابع مثل «ومضى قطار العمر» و«ضاع العمر يا ولدى».
وفى فيلميه «يوم من عمرى» و«علمونى الحب» يتعرض لموضوعات عاطفية تتسم بروح مرحة وأغان طريفة وبهيجة لعبد الحليم حافظ وسعد عبد الوهاب.
وفى «صراع فى النيل» يقدم تراجيديا عنيفة تحتوى على صراعات داخلية وخارجية محتدمة.
أما الأيقونتان المبهرتان «أم العروسة» و«الحفيد» المأخوذتان لقصص قصيرة لعبد الحميد جودة السحار فيمثلان أجمل إبداعات هذا المخرج الكبير بقدرته الرائعة على رصد هموم الأسرة المصرية التى تنتمى إلى الطبقة الوسطى ومعاناتها اليومية ومشاكلها الاجتماعية.. سلوك أفرادها، طموحاتهم... تقاليدهم بصدق نادر، فيصنع حياة كاملة على الشاشة من خلال مجرد مواقف أو أفكار لقصص قصيرة خالية من صراعات أو أحداث صاخبة، ويقدم لغة سينمائية فريدة تعتمد على فن اقتناص اللحظة بتفاصيلها الغنية بعين لاقطة وحس راق يفيض بالفكاهة الصافية والقدرة الهائلة على انتقاء تلك التفاصيل وحشدها فى تتابع شيق ذى دلالات اجتماعية ونفسية عميقة، وإيقاع ساحر وأداء بارع للممثلين، فعاطف سالم يتفوق دائما فى أن يجعل ممثليه فى أفضل حالاتهم الإبداعية، بالإضافة إلى تفوقه غير المسبوق فى السيطرة التامة والتحكم البالغ فى حركة وأداء الأطفال المشاركين فى العملين.
أسعدنى الحظ بالتعاون مع المخرج الكبير من خلال كتابة السيناريو والحوار لفيلم «ونسيت أنى امرأة» عن رواية لإحسان عبد القدوس، يدور موضوعها فى إطار المرأة الجديدة التى حاول إحسان أن يطلقها خارج الإطار المتعسف، والمفهوم المتخلف لوظيفة المرأة التى تحصرها فى البقاء فى المنزل لتؤدى واجباتها الزوجية وترعى الزوج والأولاد... فهو ينتصر لوجودها المثمر والإيجابى والإنسانى خارج الأسوار... لعبت بطولة الفيلم ماجدة وفؤاد المهندس وغادة نافع.
وكان عاطف سالم يسعى باهتمام أن يظهر أبطاله فى أفضل شكل يساعدهم على التألق.. هذا بالإضافة إلى الدقة البالغة فى توجيه الممثل داخل الاستديو عند التصوير وظبط درجة الانفعال ومدى ملاءمة التعبير المرئى والضوئى، واللفتة والنظرة والنبرة والإيماءة والحركة والإشارة ولحظات الصمت فى كل مشهد بل فى كل لحظة، لذلك تكثر إعادته لتصوير اللقطة الواحدة عشرات المرات ليختار الأفضل.
وعاطف سالم تتغير طبيعته الإنسانية الطيبة الودود، فيتحول داخل البلاتوه إلى طاغية صارم السلوك لا يتنازل قيد أنملة عن أدنى تجاوز أو اختلاف فى تنفيذ رؤيته الفنية، أو تقصير أحد الفنيين المشاركين ابتداء من مدير التصوير ومهندس الديكور ومدير الإنتاج ومساعدى الإخراج فى تحقيق ما يطلبه من أوامر وتوجيهات.. ويمنع تماما تواجد غير المشاركين فى العمل داخل الاستديو بمن فيهم الصحفيون، والنقاد، والمصورون الصحفيون... بل يمنع مؤلف الفيلم وكاتب السيناريو ويحرمه من متابعة تجسيده لما كتبه على الورق عند تحويله إلى صورة مرئية.
وأتذكر أنه فى أول أيام التصوير حينما أوصلته بسيارتى إلى الاستديو أن قال لى بحسم: سوف أسمح لك بالدخول لمشاركتنا بالاحتفال التقليدى والتحلق حول التورتة والتقاط الصور التذكارية قبل بداية التصوير، ثم عليك بالانصراف فأنا لا أرحب بتواجد المؤلف لا فى البلاتوه أو حجرة المونتاج، حتى لا يتدخل بملحوظة أو رأى مخالف لرؤيتى الفنية.. فأنا داخل البلاتوه صاحب العمل الذى يصدر الأوامر ولا يقبل النقاش.
رحم الله عاطف سالم الذى رحل عن دنيانا تاركا رصيدا بديعا من الأفلام وتاريخا مضيئا بعطر الفن الخلاب.
نقلا عن المصرى اليوم