خالد منتصر
رحل سيد القمنى، واحد من أهم قامات التنوير العربى، رحل بعد أن شكّل وعى جيل لم يكن يعرف أن علوم الدين القديمة من الممكن أن توضع على مائدة تشريح علوم حداثية جديدة مثل علم الاجتماع الدينى واللسانيات ومقارنة الأديان والأنثروبولوچى، رحل بعد معارك مريرة ضد فكرة الوصاية الدينية وتسلط الإسلام السياسى، كاد يفقد فيها حياته، وتعرّض أثناءها للتهميش والتهديد والمطاردة. ميلودراما قصة رحيله -وقد كنت قريباً منها- لها دلالات عن وضع المثقف العربى المتعفف الشريف، كيف ينتهى به الحال إذا أصر على الاستقلال برأيه، نهاية «سيزيف» الذى ما إن يدحرج الصخرة إلى أعلى الجبل حتى تسقط، تتدحرج ثانية إلى أسفل وسيزيف يحاول ويكرر المحاولة وسط طعنات زومبى الغوغاء المتربصين وامتعاض النخبة الكسولة، وها هى بعض أقوال القمنى التى لن يمحوها الزمن، والتى تلخص لكم لماذا يكرهه الأصوليون ويشمتون فى موته، كتب القمنى:
فى هذا الزمن يتصور بعضنا أنه ممثل الرب فى الأرض وأنه الوحيد الذى اطلع على المقصد الإلهى من كل نصوصه دون غيره من البشر، ومن ثم ينفى ويصادر ويكفر رأياً يخالفه لأن رأيه هو الصواب المطلق ورأى أى مختلف معه هو الكفر المطلق.
والمعلوم أن فكرة المؤامرة لا يتبناها إلا المهزوم وغير القادر على تجاوز هزائم متتالية، دون أن ينظر فى داخله ليرى الأسباب الداخلية لهزائمه، وأحياناً -كما فى حالتنا- نصر على عدم وجود أى أسباب داخلية تستدعى النظر، إذن لا بد أن الأسباب تكمن خارجنا، إنها المؤامرة الصليبية الاستشراقية الصهيونية.. وهلم جراً.
إن الخطوة الأولى فى علاج السقم والعلل أن يعترف المريض بأنه مريض وبحاجة للعلاج. يجب أن نعترف بأننا شعوب مهزومة متخلفة تستشرى فيها الأمية المعممة والأمية الثقافية، ويجب أن يأتى هذا الاعتراف عن قناعة وبساطة، ولا ندفن رؤوسنا فى أوهام تضخم الذات المرضى، حتى نجد لعللنا علاجاً ولحالنا صلاحاً. وبذات الهدوء والبساطة يجب أن نعترف بأننا نعانى من تخلف حضارى كامل حتى بات نصيبنا صفراً فيما تقدمه شعوب العالم يومياً من ألوف الاكتشافات والاختراعات التى تعمق الهوة بيننا وبين المتقدمين كل ليلة، بل كل ساعة، دون مجاز أو مبالغة.
إن زعم امتلاك الحقيقة المطلقة أدى إلى الانغلاق على الذات ونفى المختلف وعدم الاعتراف للآخر بحقه الدينى والإنسانى فى الاختلاف، بل أصبح يُنظر للمختلف بحسبانه تابعاً لمؤامرات عالمية، وأنه ضد الهوية، ومن هنا تجوز تصفيته بعد تكفيره، ويتصور هؤلاء لأنفسهم كل الفضائل والحق والوطنية، ولا يستطيعون رؤية المختلف كعنصر مكمل أو مماثل أو محاور فى ساحة لا يملكها أحد، يرون أنفسهم الحق المطلق وغيرهم يتكلم عن هوى وضلال، ناقص عقل، قليل الدين، ضعيف الخلق تشوبه النوازع الإنسانية المتحللة الخاسرة، ولا علاج له إلا القتل.
إن الفاشيست قضية واحدة وأرض واحدة وفكر واحد ومنهج واحد يقوم على تكفير المخالف دينياً ووطنياً لأنه تجرأ على المراجعة والنقد. الأقنعة واحدة والقسمات واحدة.
نقلا عن الوطن