عادل نعمان
ولما لم يستهجن أحد من السادة الحضور هذا الوجود الطاغى الفوضوى لـ«التوك توك» فى شوارعنا، ليس إلا لكونه أصبح ضيفًا دائمًا على المائدة، وله قسط من الرزق وسهم من الحق، وإن كان ليس له نصيب من الرضا أو الاستحسان، فليس كل زائر مستحبًا ومقبولًا، واستنكاره أو رفضه لن يغير من الأمر شيئًا، فهو حاضر ومفروض فى المنظومة الاقتصادية، ومشارك على المائدة مهما حاولنا صرف النظر عنه، وأن غطاءه الردىء على كل مظاهر الحسن والجمال أبقته الضرورات التى تبيح بعض المحظورات، ويستمر مادام له حاجة ونصبر عليه كما نصبر على جار السو حتى يرحل فى سلام.
ومما لهذا الضيف من الرزق: أنه يمثل دخلًا رئيسيًا وثانويًا لكثير من الأسر المصرية التى تعتمد عليه فى توفير نفقات الحياة، ويسد أبوابًا من البطالة فتحتها علينا سياسات تعليمية متراكمة عقيمة، أغمضت عيونها عن احتياجات السوق، فتكدس سوق العمل بمؤهلات لا حاجة لنا بها، وفيما نحتاجه من مهن وحرف ومؤهلات أصبح ذا النزر اليسير عددًا وكفاءة، وهو إلى جانب هذا يسند الكثير من أصحاب المعاشات والدخول المحدودة، إذ وجدت هذه الفئات المعسرة البائسة فرصة لزيادة دخلها من العمل لفترات مسائية أو صباحية محدودة.
ومما لهذا الضيف من الحق: أن هذه المنظومة الهزيلة العشوائية الفوضوية تسابق وتسارع دون قصد هيئة النقل العام، أو هيئة سكك حديد مصر، فى عدد ما تنقله من ركاب على مستوى البلاد، وربما تتفوق عليهما معا، بل وتنجح فى الوصول إلى الحوارى الضيقة والآزقة والكفور والنجوع والقرى والمناطق المتاخمة للمدن الكبيرة، وهى مناطق يصعب على وسائل النقل العام والخاص الاقتراب منها، ويساهم «التوك توك» فى نقل أعداد هائلة من المرضى وكبار السن والباعة والتلاميذ إلى المستشفيات والمدارس وأماكن أعمالهم، كل هذه الفئات لا بديل لها عن «التوك توك» الآن، وأصبح الاعتماد عليه ضروريًا لا غنى عنه، مما يجعل التعامل معه حذرًا ومقبولًا من كل أطرافه، والقرار بشأنه يراعى كل هذه الملابسات والظروف وكذلك احتياجات الناس والبدائل المتاحة، وأن الأصوات التى تنادى بإلغائه أو التضييق عليه فاتها أنها مغامرة غير مأمونة العواقب، وتهدد السلامة الاقتصادية لهذه القطاعات، والأصح هو حين يكون الأمر مفروضًا وواقعيًا وضروريًا مهما كان مرفوضًا فإن تحريكه داخل المنظومة هو القرار المؤقت الصائب، وليس استبعاده أو إقصاءه، وبيدى لا بيد عمرو، و«عمرو» هذا هو الفوضى والتسيب والجريمة المجهولة والتحرش والاختطاف الذى يفرض نفسه بديلًا عن القانون والنظام، ويكون له اليد العليا فى الشارع، وللأسف يخضع الناس له ويُجبرون عليه، كما أُجبروا على كل الظواهر السلبية التى تزكم الأنوف وأهملناها سنوات كثيرة بلا حل حتى أضحت الظاهرة سلوكًا عامًا لا نخجل منه.
وفى هذا الحديث الشيق على ضفاف النيل، والذى ضم نخبة من رجال الاقتصاد والأعمال والثقافة والفن فى بيت أحد رجال الأعمال، بدأنا الحديث من الشرق إلى الغرب وانتهينا إلى محطة «التوك توك»، لم نختلف جميعًا على الحل، واتفقنا على أن سلبياته ومشاكله ومصائبه تستدعى فورًا دون تأخير التعامل معه وتنظيمه وترخيصه حتى يمكن السيطرة عليه وتوجيهه وإصلاحه وتقويمه، والأهم تحديد المسؤولية إذا ما ألزمنا صاحبه بأعداد وأسماء العاملين عليه، والالتزام بأعمار محددة، وكذلك مناطق السير التى لا يتجاوزها وتعريفته ودرجة الأمان والسلامة والشكل العام، وإلا تفاقمت سلبياته وخرجت عن السيطرة أكثر مما تجاوزتها الآن، منها زيادة عدد الهاربين من التعليم للعمل عليه، وكذلك انصراف الكثير من أصحاب المهن والحرف والانضمام لهذا النشاط لسهولته وبساطته وما يحققه من عائد مجزٍ أفضل فى الكثير من الأحوال من حرفتهم أو مهنتهم، وهى كارثة تصيب سوق العمل بالخلل والندرة، وكذلك الأعمال المنافية للآداب والجريمة العشوائية، كل هذه السلبيات يختفى منها الكثير إذا فكرنا فى الحل العملى الذى يشارك فيه أصحاب الشأن من سائق «التوك توك» والراكب والمنتج والمستورد والأجهزة المسؤولة والمحليات وغيرهم، وإن كنت على يقين أنه لن يكون أسعد حظًا من الميكروباص لأن المشكلة عندنا بصراحة فى فساد ذمم القائمين والمراقبين والمنظمين، واستغلال المنظومة لصالحهم، على أى الأحوال نصف العمى أفضل من العمى كله، والأعرج أفضل من الكسيح، حتى يأذن الله لنا بجيل صالح نقى دارس، ويرى فى طهارة اليد الفضل والشرف، فلنبدأ فى الدراسة والحل اليوم وليس غدًا، حتى لا نجد أنفسنا يومًا أسرى ثقافة «التوك توك» ولا نخجل منها، ونراه فضيلة إذا وصلنا إلى الأسوأ منه.
نقلا المصرى اليوم