بقلم: القس/ سامي بشارة
هل تتطلب العولمة خطابًا مختلفًا في وقت تتعالى الصيحات المطالبة بأهمية وبضرورة تجديد وتطوير الخطاب الديني؟ وهذه هي المرة الثانية التي يوجّه فيها الرئيس مبارك أنظار مفكري مصر إلى أهمية هذا الموضوع الهام والحيوي والمُلّح.
كانت الصيحة بمثابة جرس إنذار وناقوس الخطر ونوبة صحيان بحس ووعي شخصية إستراتيجية لها دور واضح وبارز ليس في وطننا الحبيب مصر فقط بل والعالم أجمع، ومن شخصية يجمع بين تهور الحرب وروية السلام في وقت تصل الأصوات العالمية في القرية الكونية الصغيرة بسهولة الهواء وسرعة البرق عصر العولمة وخاصة مع تنامي موجة الإرهاب الدولي الذي أصبح له خطاب أصولي وصولي مميز ينافس الخطاب السياسي السلطوي والديني التحريضي في أغلبه وخطاب الإرهاب الدموي في مجملة وتفصيلاته.
وهناك أيضًا الخطاب المعتدل الذي يحاول أن يقيم كباري بين الثقافات المختلفة ويحيي حوار الأديان بعد التداعيات الفاتيكانية والتصريحات البندكتية ليصهر إبداعات الحضارات في بوتقة ثقافة كونية واحدة مثل لوحة الموزاييك إلى جانب خطاب الإرهاب المسموع في بقاع المسكونة بفضل الإنترنت والفضائيات المتسارعة نحو سبق إعلامي، متبنية بهذا الدافع أن تكون بوق إرهابي عالمي ولأن هذا الخطاب يرتدي عباءة الدين التي هي كلمة السر في كل مكان وزمان فهو خطاب مؤثر له قاعدة جماهيرية عريضة من البسطاء المقهورين المطحونين تحت وطأة الغلاء والفقر وضياع حقوق الإنسان في عصر يجعل من الإنسان سلعة يتقاذفها حفنة من تجار الرقيق ومن عينة الطغاة الصداميين.
وفي عصر السماوات المفتوحة انتشرت فئة أخرى أشد خطرًا وأوقع فتكًا وهم المتدينون الذين يتخذون من الدين سلعة ومن مصير الناس الأدبي والأبدي ساحة قتال وباحة سجال يعقبه في كل الأحوال التدمير والهلاك والدمار الذي مرات كثيرة يمتد أثره ويتعدى تأثيره دمار وهلاك الأسلحة النووية ليدمر عقول وقلوب الملايين من الراغبين في شراء صكوك الغفران هربًا من العذاب في الجحيم وطمعًا في جنات النعيم ويتحول فيه معنى الجهاد في سبيل الله والعقيدة والوطن إلى وثن ومذبح وتمثال نقدم أولادنا فيه قربانًا لفكر دموي بل ومصاص للدماء متعطش للفتك والفناء عن طريق إراقة أنهار من دماء لبني جنسنا من البشر الأبرياء الذين هم إخوة لنا في الإنسانية والأرض والدم من أب واحد هو آدم وأم واحدة هي وحواء والذين لهم في نسلهم منّا خالص المواساة والعزاء.
ولكل هذه الاعتبارات يصبح الخطاب الديني في غاية الأهمية بل تزداد هذه الأهمية وتتعاظم في عصر تبرز فيه تجليات العولمة المختلفة كأساس سياسي وثقافي واقتصادي واتصالي لا يمكن إغفاله أو تجاهله بل على العكس يجب تدارسه وتداركه والتخطيط له في زمن التكتلات العالمية والاتحادات الدولية وتوحيد الفكر والصف في منظومة إنسان هذا الزمان، زمن الردة والبهتان زمن الدجل والهوان وضياع إنسانية الإنسان. والتساؤل الآن: كيف يمكن تجديد الخطاب الديني في متغيرات ومتطلبات قرينة عصر العولمة (تجديد المحتوى)؟ وما هو دور المؤسسات الدينية ورجال الدين في هذا التجديد (تجديد المرسل)؟ وكيف يدرك المتلقي أهمية دورة وسط هذا الزخم الخطابي المتنوع والمتعدد والمعقد(تجديد المتلقي)؟
العولمة تقترح حالة حراك ثرية وخاصة في التجلي الاتصالي فيما يتعلق بالخطاب الإعلامي فهو دائم التغيير سريع التطور وشديد التعقيد تمامًا كالحالة الأصيلة لطبيعة العولمة. ومما يلفت النظر لضرورة التجديد ما قاله مدير المحطات الدينية الأمريكية نيل أرمسترونج "الكنيسة الالكترونية بدأت ثورة دراماتيكية مثل الثورة التي أحدثها مارتن لوثر عندما علق اقتراحاته الـ 95 على باب كاتدرائية وتنبرج".
ويبدو أن هذه الثورة حدثت ونلمس ثمارها ونجاحاتها يومًا بعد يوم عندما ندير الطبق السحري ليبدأ سيل من الخطابات المختلفة والمتنوعة في الشكل والمضمون.
إذًا نحن أمام منافسة لا تتوقف على مدار الساعة وهنا تبدو المطالبة بتجديد الخطاب الديني مُلّحة وضرورية فهي احتياج لا ترف. فالمقدس هو ما ينفع الناس وما يساعد في رقي الإنسان ويغير واقعه ويقربه من الخالق والمخلوقات وكل شيء يتغير والله وحدة هو الوحيد الذي لا يتغير إذ ليس عنده تغيير ولا ظل دوران، فكل شيء لا محالة زائل وكل نعيم ما خلا الله باطل. إذًا ما يخلق الإبداع هو التجديد وما يقتله هو التمسك بالموروث لمجرد أنه قديم ألبسناه ثوب المقدسات المحرمات.
لقد أرست العولمة فكرة الكلمة الحدث أي أن الكلمة المنطوقة لم تعد كافية على الإيفاء بمتطلبات هذا العصر فأضيف إليها الصورة لكي تجعل منها واقعًا كما يؤكد ذلك الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه :تجديد الفكر العربي: إذ يتحدث عن ضرورة الانتقال من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء عندما بدأت الحضارة بالكلمة في كان الكلمة ثم تحولت إلى حضارة الأداء أي التصنيع عندما اتسعت تطبيقات العلم إلى النواحي العملية.
وهذا ما تريده العولمة من الخطاب الديني إذ نحن الآن في عصر الأداء والمطلوب خطابًا عميقًا مبني على أعمال العقل وليس على ثقافة النقل خطابًا واقعيًا مفكر يقود الناس إلى التفكير الخلاق ويربي لدى المتلقي وعيًا عامًا بما يحدث في القرية الكونية الصغيرة. خطابًا يبدأ من الحاضر ليقود الإنسان إلى المستقبل. خطابًا يوازن بين الروح والجسد يجعل الإنسان يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. خطابًا يجعل الإنسان يواجه واقعه بوعي وابتكار وخبرة إيمانية عملية ليحدث الانسجام بين ما هو مأمول وما هو حادث لا في أفلاطونية فاضلة بعيدة المنال ولا في دروينية مجحفة تجعل من الإنسان حلقة في سلسلة أنساب. خطابًا شموليًا يتكلم إلى أنماط مختلفة تتوحد معًا مثل السيمفونية لتعزف ألحانًا سماوية بأوتار بشرية تجعل من الإنسان شريكًا للخالق في عملية الإبداع وصياغة الحياة والطبيعة لتكون الفردوس الذي أراده الله لوكيله وخليفته الإنسان.
ولا يمكن إغفال دور رجال الدين، إذ أن التجديد يجب أن يتضمنهم إذ هم القناة التي توصل المادة المقدمة وهم البوق الذي يسمع المتلقين وهم أيضًا النموذج والقدوة وهذا دورهم الأهم بالإضافة إلى كونهم عصب المؤسسة الدينية. فالتعليم والإعداد الجيد وامتلاك طرائق الحداثة واستخدام الأدوات التكنولوجية من كمبيوتر وانترنت وتبني التفكير العلمي ورفض الخرافة وتحرير العقل من سلطان السحر والدجل كل هذا يشكل عقلية رجل الدين ليكون عصريًا ومتطورًا ومبدعًا وخلاقًا يواكب العصر الذي يحيا فيه بل يسبق الناس بخطوة لكي يجذبهم إلى ضرورة تغير حياتهم وينقلهم من الظلمة إلى النور ويحرر أرواحهم من سلطان الخطية إلى حرية مجد أولاد الله ويحرر عقولهم من سيادة الخرافة وسطوة السحر إلى إعمال العقل وسيادة التفكير العلمي.
إن الإنسان يحتاج إلى التحرر من النظرة الماضوية ليحيا الحاضر ويأمل في المستقبل وهذا لن يكون إلا عن طريق رجل دين واعي مثقف خلاق ومبدع.
وعلى المتلقي الذي هو الهدف دورًا خطيرًا وهامًا إذ عليه أن يعرف كيف يختار، إذ أن نقطة الانطلاق تبدأ من الريموت كنترول إذ هي الحكم فيما يشاهده المتلقي. فعقلية المتلقي ورغباته هي الفيصل في تحديد ما هو مقبول وما هو مرفوض فالمنع أصبح غير ممكن كما هو غير مُجدي في عصر الحرية والسموات المفتوحة. فعلى ثورة التجديد أن تطال المتلقي المستهدف إذ هو جزء أصيل من منظومة التجديد وهم جمهور العملية الخطابية وتربتها.
علي المتلقي الاختيار وعليه الانتقاء من السيل المعروض والمقدم فحسن الاختيار والانتقاء هو الدور الفاعل في العملية الخطابية. تجديد المتلقي يعني تجديد ذهنه وإعداده ليكون له دور المتفاعل مع الرسالة إذ العملية الخطابية يجب أن تكون حوارية بين طرفين وغير تقليدية سلفية بل يكون طرفاها المرسل والمستقبل معًا على طريقة التليفون إذ هي اخذ وعطاء ومشاركة وتفاعل وحميمية.
إن دور الخطاب الديني هام للغاية إذ له السلطان والنفوذ خاصة في مجتمع متدين كمجتمعنا لذا تجديده وتطويره أمسى ضرورة حتمية. في عصر العولمة التي تتطلب وعيًا وثقافة شمولية يجب الاهتمام بالمحتوى ليناسب متغيرات العصر مع الاحتفاظ بالثوابت الإيمانية والاهتمام بالشكل ليجذب الفئات المختلفة وازدياد المنافسة مع الخطابات الفضائية.
التجديد يجب أن يشمل رجال الدين وأيضًا المتلقي لتكون المنظومة حية ومتكاملة كما أن العولمة تتطلب عملية نظامية متكاملة. الدعوة للتجديد دعوة للحياة وللإحياء. دعوة للتجدد والنماء. دعوة للبقاء.
ماجستير الدراسات اللاهوتية
Samy6868@yahoo.com