حمدي رزق
مثل سائق شاحنة مليئة بالوقود الحارق يقود فى طريق ضيق، بالكاد يمرق منه، إذ فجأة تفقد الشاحنة فراملها تحت قدميه، صارت تتخبط، وأفلت المقود، صار يدهس ما يقابله، بشرًا أو حجرًا، فيثير ضجة وجلبة وصياحًا يصم الآذان.

هكذا حال صديقى اللدود إبراهيم عيسى، خبرته خلال عقود، يقود شاحنته فى طريق الحياة بعقل وروية ودربة على الطريق التنويرى الصعيب.

عهدته يمرق من المنحنيات الحادة، والمرتفعات الوعرة، رزين العقل، مدرك الأبعاد الخطرة، ذا بصيرة تنم عن عقلية مرتبة، مع بعض عاطفية كبحتها التجارب الحياتية.

كان مثالًا، يقود واثق الخطى على الطريق وصولًا إلى مبتغاه محملًا بحمولة لا يحملها إلا قادر على القيادة الآمنة، لا يتجاوز الإشارات الحمراء مصادمة، يطالع تعليمات الطريق، ورأس الذئب الطائر، طيب الذكر الدكتور «نصر حامد أبو زيد»، صورته فى دلاية تتراقص أمام ناظريه فى كابينة القيادة.

كنت ومازلت أغبطه على شجاعته، شجاعة لا أملكها، ولم تتواتنى يومًا، الحذر غالب، والمتربصون كثر، يتربصون بنا الدوائر، ولكن عيسى فى الأسابيع الأخيرة يبدو كمن فقد رصانة مقوده، وغابت الفرامل من تحت قدميه، فداس على دواسة البنزين، فأحدث جلبة هائلة.

وكلما داس أكثر تعالت الصرخات عليه، صاروا يقذفون بالحجارة، ولكنه كمن أغلق زجاج نافذة المقطورة عليه حتى لا يسمع صياحهم، ورفع صوت الموسيقى عاليًا تصم أذنيه تمامًا.

إبراهيم جزافيًّا يصك أحكامًا مجتمعية وأخلاقية.. ودينية، ويعيب على المجتمع.. والعيب فينا كمثقفين، وكما قال الإمام الشافعى:

«نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا

وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا

وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ

وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا

يا صديقى، الطريق واعر فتحسب، إذا أردت نصحًا فكن رفيقًا، وجادلهم بالتى هى أحسن، ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك.

ما حدث لإبراهيم فى الفترة الأخيرة، بدا فظًّا، فانفض من حوله كثير من المحبين، صار يقود وحده فى واد غير ذى زرع، دخل بشاحنته مدخلًا ضيقًا، طريق واعر، أخشى ولوج طريق الندامة.

ليست هذه السطور محل نقاش ما فاه به عيسى، تكفل به كثيرون، ولكنها نصيحة من صديق، لا تصدم الناس فى مشاعرهم، ولا تقسُ عليهم جلدًا، وترفق، وقل قولًا كريمًا، وابتعد بمسافة عن عقائدهم، ولا تنكر المعلوم، ولا تكن سوط عذاب.

صديقى أذكرك ببيت شعر لمحمود درويش أسمعتنى إياه فى بواكير الصبا «بقاياك للصقر، من أنت كى تحفر الصخر وحدك؟!» عادته، عادة إبراهيم لا يكف عن نطح الصخر، ولكن الصخور جرانيتية قاسية، ستدمى جبهتك، وتفقدك صوابك.

حذار، السكاكين مسنونة مشرعة لقطع الرقاب، جد بت أخشى عليك، وفى الدغل عيون بتبص، ودبابة متلمظمين لقطعة من لحمك، وعطشى إلى جرعة من دمك.

أخشى تستملح الحالة، وتعيش فى خيلاء الشهرة السلبية، ولا تنظر تحت قدميك مليًّا، إبراهيم أنت تدوس بنزين، ارفع قدمك، وهدئ السرعة، وليتك تقف لتلتقط أنفاسك على جانب الطريق، هنيهة على طريق السلامة الذى أرجوه لمن قرر المضى قدمًا فى هذا الطريق.
نقلا عن المصري اليوم