بقلم / كمال مغيث
وعيت على الدنيا فى الباجور منوفيه وفيها ثلاث من رجال الأعمال اليونانيين، صاحب وابور الطحين، وصاحب مكنة اللبن والجبن، وصاحب الخمارة، يتجولون بحرية وأريحية وسط الناس يدخلون البيوت ويجلسون على المقاهى، منهم من كان يتداخل مع الناس فيحضر مناسباتهم وتدور بينه وبينهم معاملات مالية، ومنهم من يقتصر ويكتفى بالضرورى من التعامل، وكانت خمارة "الخواجة سفوكليس بابانايوتى" أمام بيتنا مباشرة تربطنا بها أصول الجيرة المصرية التقليدية، فلابد ان تحملنى امى اربعة ارغفة مع كل خبزة على صينية صغيرة مغطاه بقماش إلى الخوجاية "سيراجيوس" أو طبق كحك وبسكويت، وبالتالى كانت الخواجاية تنادينى لأحمل لأمى طبق من المكسرات او الرنجة او غيرها، وكان مرتادى الخمارة من الزبائن الذين يأخذون طلباتهم ومعها مايلزمها من جبنة رومى وبسطرمة وغيرها، او من الموظفين المرموقين والمعروفين فى البلد الذين يدخلونها بعد العصر ليشربوا على مجموعة من الموائد القليلة، ولم أجد من يهتم بمعرفة عقائد هؤلاء الخواجات ولم أسمع فى طفولتى عن هؤلاء الخواجات مايشين أو مايدعو للغضب ولم أجد مجموعة من الغوغاء يقذفونها بالطوب، أو يتجمهرون مطالبين بطردهم، فقد كان الناس فى ظل ثقافة إنسانية وهيمنة قانون، يقول لها لسان حالها: "كل واحد متعلق من عرقوبه"
أما إذا انتقلنا إلى عالم المسلمين، فسنجد هناك أصنافا شتى منهم فهناك الأزهريون الذين يشيعون خطابا وسطيا معتدلا بالفعل، يركز على الجانب الأخلاقى السمح فى الإسلام، ولا تشغلهم قضايا حجاب المرأة ولا صوتها العورة ولا خروجها من البيت فى مدينة ريفية تعمل فيها النساء مع الرجال كتفا بكتف، ولا يدعون لهدم ضريح ولا تكفير صوفى أو مسيحى ولا يكفرون فنانا أو من يدخلوا السينما أو يستمعوا للغناء، وهناك المسلمون البسطاء من الفلاحين الأميين وهؤلاء لم تكن تشغلهم عقائد الناس ولا أفكارهم ولا مناقشاتهم، وإنما يعرفوا فرائض دينهم من صلاة وزكاة وصوم وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا، فيؤدونها فى بساطة وإسماح، ومن هؤلاء من كان صوفيا عتيدا فلا يرى تناقضا بين إسلامه البسيط وبين إيمانه اليقينى بشفاعة الأولياء وكراماتهم التى تتجاوز الخوارق والمعجزات بل وحتى علاقتهم برب العزة والتى تتجاوز كل ماهو معقول
أما فى وسط المثقفين المسلمين فقد كانوا يعرفون أن الإختلاف حول قضايا الدين هو السمة الغالبة فى التراث الإسلامى، ويعرفون أن المتكلمين من مختلف المدارس الإسلامية قد اختلفوا فى ذات الله وصفاته وتجسيده، واختلفوا فى كون الإنسان مجبر مسيًر أم مختار حر، وفى كون مرتكب الكبيرة: كافر هو؟ أم مؤمن شاب إيمانه شائب؟ واختلفوا فى القضاء والقدر وكسب الانسان لنتائج أفعاله، واختلفوا فى القصص القرآنى: أهو رمزى معنوى للعبرة والدرس فقط؟ أم هو واقع تاريخى تجسد وتحقق، واختلفوا فى الأخذ بفكرة الناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، واعتبار أسباب النزول أو إهدارها، واختلفوا فى آيات القرآن حول الأخذ بفكرة خصوص السبب أو عموم المعنى.. وهكذا لا تكاد توجد قضية دينية كبيرة أو صغيرة إلا اختلف حولها المسلمين أنفسهم
ومع كل هذا التنوع فى الناس وعقائدهم، ومع كل هذه الاختلافات بين المتكلمين والفقهاء، لم يكن هناك معنى لتكفير مسلم يؤمن بهذا الجانب أو ذاك من القضايا الخلافية التى أشرت إليها
وظلت مصر والتدين الإسلامى فيها بخير وإسماح، حتى فتحت الدولة الباب على مصراعية فى الإعلام وفى المساجد وفى الشارع للخطاب الوهابى الحنبلى الذى يكفر الناس على كلمة أو رأى أو موقف باعتبار أن الحقيقة واحدة وأنه هو من يملك تلك الحقيقة المطلقة