د. ســامــح فــوزي
واحدة من القضايا الشائكة التى يواجهها المجتمع هى مسئولية الحديث فى الشأن الدينى. وهناك ما يشبه الاعتقاد الضمنى، وأحيانا يُصرح به، أن كل ما يتصل بالدين هو مسئولية رجل الدين أو عالم الدين، الذى يدرس، ويشرح، ويفسر، ولا أحد يجادله أو يزايد عليه، فهى مسألة تخصص، وعلم، ومعرفة. وبالتالى، عندما نطالب بتحديث الخطاب الدينى نتجه بالحديث دائما إلى المشتغلين بالعلوم الدينية، باعتبار أنهم أصحاب الولاية الحصرية فى هذا المجال، ويُغلق الباب فى وجوه غيرهم. هذه المسألة لا ينبغى أن تُؤخذ على إطلاقها، لأن الشأن الدينى ليس أمرًا واحدًا، هناك قضايا تميل الكفة فيها فى اتجاه أهل الاختصاص، وهناك قضايا أخرى، وهى الغالبة، التى تخص الناس على عمومهم، لاسيما مثقفيهم.

من ناحية أولى: يتطلب تناول الشأن العقيدى، وما يتصل به من شرائع، وعبادات، وطقوس باحثًا متخصصا، يتعمق فى هذه القضايا، ويدلى برأيه فيها استنادًا إلى علم ومعرفة، ولا يصح تناولها باستهانة، أو ينزلق الناس – دون معرفة- فى الحديث فيها على وسائل التواصل الاجتماعى. ولكن يحتاج تناولها أيضًا من جانب المتخصصين إلى اجتهاد، وأفق علمى متسع، فلا يضيقون الطريق أمام الناس، ولا يحجبون عنهم رؤى متنوعة فى مسائل لا تزال محل اجتهاد.

ومن ناحية ثانية: الخطاب الدينى، أو ما يتصل بعلاقة الدين بالمجتمع، أو أسلوب ممارسة التدين فى المجتمعات ليس شأنًا دينيًا محضًا يختص به علماء الدين، بل يُعبر عن قضايا مجتمع يتداولها المتخصص، والباحث، والمثقف، والأكاديمى، وعامة الناس، لأن يصح فيها تعدد الآراء، واختلاف زوايا النظر إلى الأمور. من هنا يٌدرّس الدين فى كثير من الأكاديميات المتقدمة مع العلوم الاجتماعية، وذلك حتى تتسع نظرة الدارس، ولا تضيق أمام تعدد مشكلات المجتمع، وتصبح لديه القدرة على تقديم رؤى مبدعة لتطوير نوعية الحياة تعبيرًا عن فهم عصرى.

واقع الحال أننا نواجه فى مجتمعنا إشكالية حقيقية عندما يختلط الأمران معا، حين يفتى الناس – من ناحية- فى أمور دينية عقائدية أو شرعية دون علم كاف، أو معرفة عميقة، وأيضا عندما تغلق طبقة المشتغلين بالعلوم الدينية – من ناحية أخرى- تناول الشأن الدينى، فى أبعاده الاجتماعية والثقافية والإنسانية، أمام الناس، بمن فيهم من مثقفين وباحثين وخبراء فى العلوم الطبيعية والاجتماعية، فيتحول النسبي- أى ما يٌختلف عليه- إلى مُقدس أى من ثوابت الإيمان التى لا تقبل نقاشًا أو نقدًا.

وأحسب أن الجانب الأكبر مما ينشغل به المجتمع، ويناقشه فى الإعلام، خاصة الالكترونى، هو من القضايا الدينية الاجتماعية التى تقبل تعدد الآراء، واختلاف النظرات، ويؤدى إغلاق باب الحديث فيها إلى الازدواجية التى نراها، ونعانى منها، عندما يختزل الناس الدين فى شعائر تُمارس أو يٌتعبد بها، دون الارتقاء بأسلوب التفكير، وطريقة التعامل مع الآخرين. ومن الملفت أن الناس باتت تنشغل بالأمور الدينية، ليس فى الممارسة الحياتية اليومية، ولكن فى النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعى، البعض يدافع عن عقيدته بنفس صافية، والبعض الآخر ينتقد التراث الدينى، وفريق ثالث يمتطى النقاش فى الشأن الدينى بحثا عن منفعة. هؤلاء وما أكثرهم، باحثون عن شهرة، أو عائدون إلى المشهد، أو راغبون فى لعب دور بعد انحسار الأضواء عنهم، ولا بأس من الدفاع عن الدين على سبيل غسل السمعة.

ليس الصخب الدينى هو المطلوب لتطوير علاقة المرء بالتدين، وأيضا لا يسهم إغلاق باب الحديث فى الدين على المتخصصين فى تطوير نوعية الحياة، ولكن الحل يكمن فى فتح منافذ الحوار العقلانى فى المجتمع حول القضايا الدينية، وإشراك قطاعات عريضة من الناس فى التفكير والنقاش وممارسة النقد الجاد للعديد من المظاهر الشكلية المزيفة والأفكار العقيمة، وتعرية النفاق الدينى، ومشاعر التدين المنقوص، والعبور من شكل التدين إلى عمق الإيمان، بحيث يكون للمؤمن الحقيقى رسالة تجاه التحديات التى تواجه المجتمع، والمشكلات التى تلاحقه. هذه ليست مسئولية أهل الاختصاص الدينى وحدهم، بل هم جزء من كل، لأن الشأن الدينى، باتساعه وتنوعه، تحول إلى حياة وثقافة وعلاقات اجتماعية، وصار شأن الناس جميعًا، يمارسونه أحيانا بصخب، وحنق، وتزمت، وتصبح مسئولية المجتمع أن يتيح أمامهم آفاق التدين الرحب، الناضج، المتعقل، الذى يصب فى تطوير المجتمع، وتعميق الثقافة الإنسانية.
نقلا عن الأهرام