فاروق عطية
على قهوة العواطلية علي شط ترعة الكفر تجمع شلة العواطلية بقيادة الواد عوضين أبو لسان زالف يتناقشون ويقلّبون الأمر بيناتهم حول مشكلة الساعة وكيف يمكنهم المساهمة في حلها قبل أن تتفاقم وتتحول إلى حرب عالمية ثالثة تحرق الأخضر واليابس. تجمعوا حول طاولة يحتسون الشاي المغلي أبو لون زي الحبر ويتبادلون غابة الجوزة بشغف ويخرجون دخانها الكثيف من فتحات نغاشيشهم بسعادة والواد حمدته صبي المعلم حمؤة صاحب المقهي يقف زنهار يحوم حواليهم لتلبية طلباتهم لتغيير حجر الجوزة عند اللزوم أو إمدادهم بالمزيد من أكواب الشاي.
الواد حسنين ابن بهانة البلانة بادر بالسؤال: هو إيه سبب المشكلة ما بين روسيا وأوكرانيا وكلنا عارفين أنهم جيران وحبايب من أيام الاتحاد الفسكوني (يقصد السوفييتي) ؟. رد عليه الواد عوضين بعد أن شد نفسا عميقا من الجوزة حتي تفجّر النار من حجرها وأخرج الدخّان ببطء من فتحتي منخاره وقال: الواد فلودومير زيلينسكي رئيس جمهورية أوكرانيا عامل فيها فلحوس وفِتك وعاوز يخش خبط لزق في حِلف الناتو، وده طبعا ماعجبش رئيس روسيا فلاديمير بوتين واعتبر الأمر في غاية الخطورة بالنسبة للأمن القومي الروسي، وحاول بكل الطرق أن يحذر زيلينسكي من هذا الأمر، مش بس كده لكنه حذر كمان وقدم مطالب كاسحة لقادة حلف الناتو بحذرهم من خطورة توسع الحلف شرقا خاصه أنه لاحظ استمراره بعد انهيار حلف وارسو العسكري السوفييتي، وطالبهم بتعهد بعدم قبول طلب أوكرانيا بالانضمام للحلف، ولم يرضخ زيلينسكي وكمان الحلف طنّش ولم يرد.
الواد جودة إبن الغفير مجاهد شد نفسين من الجوزة وشفط نصف كباية الشاي في شفطة واحدة وقال: هو يعني بوتين كان ولي أمر أوكرانيا ولا ماسك عليها سي دي من بتوع مرتضى منصور، عشان يتحكّم ويأمر أوكرانيا تدخل الناتو ولا ماتدخلش هو مال أمّه ؟. رد عليه الواد عوضين وقال له: إفهم يا ابو عقل مفسفس وعامل فيها فهمنجي جاك خابط يفك لحام صدرك، فاكر ياد لما قِردو خان بتاع تركيا لما حاول يدخّل الجيش التركي في ليبيا السنة اللي فاتت، ورئيسنا السيسي وقف له وقال الحدود الشرقية لليبيا خط احمر ؟. رد الواد جودة وقال: إيون فاكر بس إيش جاب دي لدي؟. الواد عوضين زغرله وكشر في وشه وقال: يا ابو مخ ضِلِم دي زي دي، ليبيا جارتنا خبط لزق وبنعتبرها عمق استراتيجي لمصر، يعني أمن قومي الخطر ييجي من ناحيتها لو العدو التركي قّرب من حدودنا. تمام زي أوكرانيا بالنسبة لروسيا يعتبرها بوتين عمق استراتيجي لروسيا أو أمن قومي ليها، لو حلف الناتو عدو روسيا دخله يسبب لها القلق والخوف، ولازم ولا بد أن يدافع عن أمن بلده.
تدخّل عوض ابن شلبية الداية وقال: وإيش كان تصرف بوتين عشان يدخل الحرب وما يخافش من أمريكا اللي بتحكم العالم؟. رد عليه الواد عوضين: يوم الخميس اللي فات صرّح بوتين أن موسكو لم يكن عنديها خيار آخر غير مواجهة الأمر بتنفيذ «عملية عسكرية خاصة» ضد أوكرانيا، لأن كل محاولات موسكو السابقة لتغيير الوضع الأمني باءت بالفشل، كمان حذر أي طرف أوروبي أو غير أوروبي من التدخل وأن موسكو سترد فورا على أي محاولة من الخارج للحيلولة دون العملية العسكرية التي شنتها ضد أهداف في أوكرانيا، محذرا أيا كان من سيحاول الحيلولة دون إجراءاتنا ناهيك عن تشكيل خطر على دولتنا وشعبنا، يجب عليه أن يعلم أن رد روسيا سيكون فوريا وسوف يؤدي إلى نتائج لم تواجهوها أبدا في تاريخكم.
سأل حِميدة ابن العمدة: اشمعنى اليومين دول كبرت في دماغ بوتين وماعملهاش من سنة ولا اتنين ليه، حبكت يعني ؟. وقبل أن يجيبه الواد عوضين انبرى الباشمهندس الزراعي المتقاعد اللي كان قاعد علي الطاولة المجاورة لهم ويتتبع حواراتهم وقال: حواراتكم جميلة ورائعة تدل علي أنكم شباب متفتّح وواعي ومتابع للأحداث العالمية، وعشان كدة حبيت ازيدكم علما ببواطن الأمور.
أخذ نفشا عميقا وقال: التوتر بين روسيا وأوكرانيا عميق الجذور ويعود للعصور الوسطى، لأن كلا الدولتين تمتلكان جذور ممتدة في الدولة السلافية الشرقية التي كانت تعرف بـ (كييف روس) لذلك دائما ما يذكر بوتين الدولتين بأنهم شعب واحد. وعلى مر التاريخ اختلف مسار هاتين الدولتين ونتج عنه لغتين وثقافتين مختلفتين رغم قرابتهما، تطورت روسيا سياسيا إلى إمبراطورية قوية بينما لم تتمكن أوكرانيا من بناء دولتها. وفي القرن السابع عشر تحولت مساحة شاسعة من أوكرانيا الحالية إلى جزء من الإمبراطورية الروسية. وبعد سقوط الإمبراطورية الروسية عام 1917م، استقلّت أوكرانيا لفترة وجيزة، لكنها وقعت تحت الاحتلال العسكري لروسيا السوفييتية مجددا. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م واستقلت كل من أوكرانيا وبيلاروسيا، وأرادت روسيا حينها الاحتفاظ بتفوزها في كلا الدولتين من خلال تأسيس رابطة الدول المستقلّة"جي يو إس". توقعت روسيا أنها ستستطيع السيطرة علي أوكرانيا عن طريق شحنات الغاز الرخيص، وتمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا، وفشل ذلك مع أوكرانيا التي كانت عيونها دائما مسلّطة على الغرب، وهذا ما أثار غضب الكرملين، إلا أن الصراع لم يصل لذروته خلال التسعينيات حيث كانت موسكو هادئة لأن الغرب لم يكن يسعي لدمج أوكرانيا كما أن الإقتصاد الروسي كان يعاني، والبلاد كانت مشغولة يالحرب في الشيشان. في عام 1997م اعترفت روسيا بحدود أوكرانيا بما فيها شبه جزيرة القرم من خلال ما يسمى بـ " العقد الكبير".
قي مطلع التسعينيات "بعد انهيار الاتحاد السوفييتي"، كانت أوكرانيا تمتلك ثالث أكبر ترسانة أسلحة نووية في العالم، عملت كلا من روسيا والولايات المتحدة على نزع الأسلحة النووية الأوكرانية، وتخلّت أوكرانيا عن مئات الرؤوس النووية ألى روسيا مقابل ضمانات أمنية لحمايتها من هجوم روسي محتمل. في خريف عام 2003م شهدت روسيا وأوكرانيا أول أزمة دبلوماسية كبيرة بيتهما بشكل مفاجئ في عهد فلاديمير بوتين، حيث يدأت روسيا في بناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة "كوستا توسلا" الأوكرانية. اعتبرت أوكرانيا ذلك بمثابة محاولة جديدة لترسيم الحدود بين البلدين، فازدادت حدة الصراع الذي تم احتواؤه بلقاء ثنائي بين الرئيسين الروسي والأوكراني الذي انتهي بوقف بناء السد، لكن الصداقة بين البلدين بدأت في التآكل.
خلال الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا عام 2004م، دعّمت روسيا بشكل واضح المرشح المقرّب منها فيكتور يانوكوفيتش، ولكن الثورة اليرتقالية حالت دون فوزه، وفاز بدلا منه السياسي القريب من الغرب فيكتور يوشتشينكو، وأثناء رئاستة قطعت روسيا عن أوكرانيا إمدادات الغاز مرتين عامي 2006 ، 2009م كما قطعت إمدادات الغاز المار عبر أوكرانيا إلى أوروبا أيضا.
في عام 2008م حاول الرئيس الأمريكي حورج دبليو بوش إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الأطلنطي"ناتو" ولكن ذلك قوبل باحتجاج بوتين وإعلنت روسيا بشكل واضح أنها لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا، كما وقفت ألمانيا وقرنسا ضد تنفيذ خطة بوش. وحاولت أوكرانيا الارلباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي. بعد أشهر قليلة تم توقيع الاتفاقية، مارست موسكو ضغوطا اقتصادية هائلة على كييف وعلى خلفية ذلك، جمّدت حكومة الرئيس الأسبق يانوكوفيتش الذي فاز بالانتخايات عام 2010م الاتفاقية، وبسبب ذلك انطلقت احتجاجات معارضة للقرار أدّت لفراره إلى روسيا في فبراير 2014م.
في مارس 2014م استغلّت روسيا فراغ السلطة في أوكرانيا لضم شبه جزيرة القرم، وفي نفس الوقت بدأت قوات روسية شبه عسكرية التواجد في منطقة الدونباس الغنية بالفحم شرقي أوكرانيا، كما أعلنت جمهوريتان شعبيتان في دونيتسك ولوهانسك يترأسهما روس. انتظرت الحكومة الأوكرانية حتي انتهاء الانتخابات الرياسية في مايو 2014م لتطلق عملية عسكرية كبرى أسمتها"حرب على الإرهاب"، وفي يونيو من نفس العام التقى الرئيس الأوكراني المنتخب على التو بيترو بوروشينكو وبوتين لأول مرة بوساطة ألمانية وفرنسية، على هامش الاحتفال بمرور 70 عام على يوم الإنزال على شواطئ نورماندي، وخلال ذلك الاجتماع ولدت ما تسمى بصيغة نورماندي. تعرضت الفرق العسكرية الأوكرانية قرب إيلوفايسك (بلدة تقع شرق دونيتسك) للهزيمة، لكن الحرب على جبهة موسعة انتهت في سبتمبر بتوقيع إتفاق وقف إطلاق النار في مينسك (ميتسك 1).
بعد هذا الاتفاق تحول الصراع إلى حرب بالوكالة تدور رحاها حتى اليوم. في مطلع عام 2015م شن الانفصاليون هجوما زعمت كييف أنه كان مدعوما بقوات روسية وهو ما نفته روسيا. هُزمت القوات الأوكرانية مرة أخرى في مدينة ديبالتسيفي الاستراتيجبة واضطر الحيش الأوكراني التخلي عنها بشكل يشبه الهروب، وبرعاية غربية تم الاتفاق علي (مينسك 2) وهي اتفاقية تشكِّل أساس محاولات السلام وما تزال بنودها لم تنفذ بالكامل حتى الآن.
في خريف 2019م كان هناك بصيص أمل، إذ تم إحراز نجاح في سحب جنود من الجبهتين المتحاربتين من بعض مناطق المواجهة، لكن منذ قمة النورماندي التي عقدت في باريس في ديسمبر 2019م لم تحدث أي لقاءات، لأن بوتين لا يرغب في لقاء شخصي مع الرئيس الأوكراني الحالي فلودومير زيلينسكي الذي من وجهة نظر موسكو لا يلتزم باتفاق مينسك.
منذ ديسمبر 2021م يطلب بوتين بشكل علني من الولايات المتحدة ألا تسمح بانضمام أوكرانيا إلى حزب الناتو أو تتلقى مساعدات عسكرية، لكن الحلف لم برضخ لهذه المطالب. انزعجت روسيا بشدة من فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وذلك يشكل خطا أحمر بالنسبة للرئيس الروسي بوتين، ويرجع ذلك للفصل الخامس من اتفاقية الناتو التي تنُص على أن أي هجوم يتعرض له عضو في الحلف يعتبر هجوما على الحلف بأكمله، ما يعني أن أي هجوم عسكري روسي على أوكرانيا يعني وضع روسيا في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والدول الـ 27 الأعضاء بالحلف.
حاول بوتين اختبار أمريكا والغرب في الأزمة الأوكرانية عدة مرات، الأولى في ربيع 2021م عندما حشد بعض القوات والعتاد العسكري على الحدود، فانتبهت الولايات المتحدة وسعت لإجراء مباحثات بين بوتين وبايضن، وبعدها بأيام سحبت روسيا قواتها. كما تغيرت نظرة بوتين للولايات المتحدة كثيرا خاصة بعد الانسحاب العسكري الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، والاضطرابات التي تعانيها أمريكا على الصعيد الداخلي نتيجة الاستقطاب الذي شهدته يعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو ما تراه موسكو أنها مؤشرات للضغف الأمريكي. كما يرى بوتين الغرب في حالة انقسام شديد بشأن دور الولايات المتحدة في العالم، وأخطاء بايضن الدبلوماسية ألتي أدت لنفور الشركاء الأوروبيين تحديدا الانسحاب الفوضوي من أفغانستان واتفاق الغواصة النووية الذي طرحه بايضن مع بريطانيا واستراليا وكان مفاجأة لفرنسا.
انبهر الواد عوضين بغزارة معلومات الباشمهندس وشرحه الرائع فانتفض واقفا وانحني وقبل رأسه شاكرا وممتنا، ونظر لرفاقه الذين يحاولون دوما توريطه في مشاكل لا يرغب التورط فيها نظرة عتاب وهو يقول في سرّه: قبر يلم العفش.